حين استشهد إخوتي في يوم واحد


*محمد ريان


خاص ( ثقافات )
لا شيء يشبه ذلك اليوم، ما من شيء فيه عادي، بكاء الأطفال على غير ما كان، هدوء الحي، مشاكسة القطط، حتى بائع الحلوى الذي يَحسب أن حلواه من الجنة لم يأت إلى ديارنا، الصلوات على غير اطمئنان أدَّيناها، فبعد كل صلاة جنازة، وبعد كل عين كفاية.
رن هاتفي المحمول، رقم من تسع خانات أجهل صاحبه، لا اسم، لا تفاصيل، لا معلومات، تردّدت قليلاً، من يكون؟ وماذا يريد في يوم حرب ومعمعة؟
بحذر قلت من معي، ما من مجيب غير نفس متقطع، هرج بعيد متداخل مع بعضه كأنه استغاثة، تحذيرات يطلقها بعضهم، نعيق طائرات الموت تحوم، وفجأة يتفجر صوت خائف يلهث “ألو.. ألو”، أجبته بانفعال: “معك مين إنت إيش فيه”. من دون مقدمات، قال: “أخذت رقمك من الصادر في جوال شب قصفوه اليهود بصاروخ قطعوه.. تقطع”!. ألقاها على مسمعي دفعة واحدة كصخرة صماء ألقيت على ألواح صفيح، فدوت في أرجاء الأرض أصوات أنين جماد يشكو ظلم جماد، كبركان لفظ غيظ أحشائه على غير اعتبار لزمانٍ، أو إنذار لمكان، مثل ضربة خنجر غدر في جنح الظلام، دفعة واحدة ألقاها وسكت. هنيهة صمت، اختفت معها رعود المدافع والقذائف والطائرات الملعونة، صمت أوقف معادلات الفيزياء في مدارات الكواكب كلها.
سألته في اضطربٍ حائر: “وين أنت وين أقابلك؟”.
قابلته.. ضاع أملي في أن أتعرف على الهاتف المحمول، فأعرف صاحبه، فقد نال نصيبه من الخراب، ثم ضاع مرة أخرى عندما فتشت الأسماء، أبحث عن اسمي، لعلي أجد معه ما يدل، قلبت الرسائل ليضيع أملي أخيراً.
الحيرة قاتلة مَن هذا الشاب الذي قطعته صواريخ الصهاينة: أهو من أصدقائي؟ من إخوتي؟ من جيراني؟ تنهمر الأسئلة على رأسي، كأنها نقرات غربان الموت، تأخذني الحيرة إلى أبعد مكان، تتنقل بي من احتمال إلى احتمال، ما العمل؟ كيف أتصرف؟ يا رب لطفك ورحمتك.
رن هاتف الشاب، صوت يجهش بقلق يسأل: خالد أنت بخير؟ 
قلت مستغربا: خالد ..!
انفجر صاحب الصوت باكياً، فقد أدرك ما أدركته، لا مزيد من الكلمات لتلك اللحظة، لأن كل لغات الأرض لن تستطيع وصفها.
عُمِّمَ الخبر، يتوافد الجميع على المستشفى، حيث يخضع خالد لعملية جراحية، فهناك بقية من أمل في إنقاذ حياته، القادمون يصطفون بجانب السابقين بهدوء، واقتصاد حتى في التحية والدعاء، فالقلوب لا تحتمل، والأعصاب مرتبكة وجلة، كأنها القيامة قامت علينا وحدنا..!
تنتزع أمي الكلام من جبروت الصمت، تسألني: في أخبار عن أخوك محمود؟، زلزلتني بسؤالها، نسيتُ متابعة السؤال عنه، لكنها الصدمة تفعل ما تفعله.
الواحدة ظهرا، يخبرني والدي: “محمود خرج من البيت في الرابعة فجرا عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي، ولم يعد حتى الآن، واتصلت به، قال إنه في منطقة كذا وبعدها لم يرد على هاتفه”
قلت في نفسي الله يستر، محمود هناك على حدود مخيمنا الشرقية يدفع عن أكبادنا كيد الغاصبين، يحول بيننا وبين الطغاة المعتدين، على ثغر الرباط الأول.
سألت عنه بعض الذين عادوا من المعركة، أجريت بعض الاتصالات: من لديه خبر؟ من عنده معلومة؟ من شاهده؟ من يعرف عنه شيء؟ لا أخبار ولا معلومات الكل مشغول في البحث عن أهله وخاصته، الكل يتفقد عياله، لكنني عثرت أخيراً على رسول يأتي لي بالخبر اليقين، بعد ساعة أو نحوها ستكون الأخبار الجلية بين يديك، وانطلَق.
“أيوة يمة” هو بخير إن شاء الله، سأتصل بصاحبي، وإن شاء الله تكون عنده أخبار تطمئننا، أظهرتُ بعض التفاؤل، وأبرقت بعيني ببارقة الأمل، فأمي في حال لا تحسد عليها، وفي شدة تخر لها الهمم، خرجتُ ليس بعيداً إلى مكان يتوفر فيه بعض الهدوء، لأجري اتصالي مع صاحب الخبر، اعتذر لي فلا معلومات جديدة عن محمود..
عدت إلى حيث الجميع، انتفض جسدي، حين رأيت والدي يقف مع أحد الأطباء، قلت ما الخبر؟ ايش وضع خالد..؟ الصمت مرة أخرى، أحسن الله عزاءكم في محمود. وصل المستشفى شهيدا، إصابة مباشرة في الرأس.
الصدمة والقهر دفعة واحدة، كُسر الصمت فصرخات الفؤاد حين تتلوى ألما لفراق عزيز لا يقوى على كتمانها حكيم ولا عاقل، يا لأكبادنا تكتوي بفراقك محمود، يا لقسوة الحياة، يا لتدافع الأحداث، لا شيء في الحسبان، إنما هي الأقدار تنضجها الأيام تتجلى على وقتها الأزلي الذي أراد الله لها وارتضى.
نغادر المستشفى إلى أرض المعركة، نئن من أثقال النفس المكلومة، نتثاقل من هول الخبر، فما من شيء أثقل على النفس من الحزن، وما من أمر أشد على الروح من الفراق. نسير بخطى ثابتة، لكنها بطيئة، راضية لكنها حزينة، واثقة لكنها بشرية، أسماعنا عامرة بذكرى ضحكة أطلقها محمود، وأفئدتنا مدثرة بطيفه الراحل، نفتش بلهفةٍ عن آخر نظرة، وآخر كلمة، وآخر لقمة، وآخر لحظة، نرجو ألا تخوننا الذكريات.. نترك خلفنا خالداً في أمان الله ولأمره وقدره، نراقب الزمن في انتظار انتهاء العملية الجراحية، ما أطول الانتظار وأشقاه.
يخطف صوت الهاتف أبصارنا عن عقارب الزمن، إنها الحادية عشرة وخمسون دقيقة، لا عجب فاليوم استثنائي، يوقظنا بصوته المخنوق من آلامنا التي خدرت أسماعنا وقلوبنا، يسوق إلينا إحدى اثنتين: بشارة أو صاعقة أخرى، يبادر المتصل بالحديث، فَعل الأطباء ما في وسعهم، لكن قدر الله غالب، أحسن الله عزاءكم في ابنكم خالد.
______
*كاتب من غزة

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *