*ترجمة وتقديم – خالد البدور
يُعد بول أوستر اليوم أحد أكثر كتاب أميركا تميزاً، ففي رواياته وكتاباته الأدبية قدم هذا الكاتب أسلوباً وصوتاً له فرادة وخصوصية. قبل الرواية ولج أوستر عالم الشعر، وقد أصدرت دار النشر فابر مجموعاته الشعرية الثلاث التي أصدرها في سبعينيات القرن العشرين، حين كان في عشرينيات عمره، ثم توقف بعدها عن الشعر ليتفرغ للرواية والترجمة والكتابات الأدبية والنقد. بحث قراء أوستر في كتاباته الشعرية المبكرة دوماً عن الصوت والمخيال الروائي فيها. هل كان يمكن التنبؤ بوجود روائي خلف تلك النصوص الشعرية؟ على الأغلب فإن الإجابة هي النفي، إذ إن أشعاره كانت عبارة عن صور تعبيرية خاطفة، حادة ومكتنزة بالإشارات، في غياب أي ملمحٍ سردي أو نفسٍ قصصي. في ما وراء سطوره يلمع تأثير غامض لرومانسية ريلكه ومالارميه، ثم الأجيال الأخرى من التعبيريين كبول تسيلان أو الأشعار الرمزية لماندلشتام، وهناك أيضاً بعض التأثير من إيميلي ديكنسون وإدغار آلان بو، على حد تفسير المحرر الأدبي لصحيفة الغارديان.
في القصائد المختارة للترجمة هنا يبدو أوستر لاعباً كبيراً بالصور بأقل قدرٍ من الكلمات. يختزل إحساس الكائن بالوجود من خلال كلمات، وأصوات، ومجازات، تبدو مجردة ومشظَّاة. بعد أن تذهب معه في النص لا يلبث إلا أن يعود بك إلى محور القصيدة، والذي يبدأ من عنوانها وسطرها الأول. في مقاطع قصيرة يختار كلمات ثاقبة، وهي أحياناً شرسة ذات مخالب: (ليلٌ، وثلجٌ يتساقط، تكرارُ جريمةٍ بين الأشجار) بعد هذا يقودك برفق إلى عالمٍ أكثر رأفة: (جسدٌ بين الأشجار، جاء يسير من الليل/ صوتي يأتي ماشياً نحوك).
غير أن الحب ينهض من بين سطور القصائد بصمت. يبدو الشاعر كمن يتأمل في المشاعر، يصفها كما لو كان شاهداً، يقترب منها إلى حد صارخٍ ثم يبدأ بالابتعاد دون أن يترك وراءه أثراً، ويسيطر الصمت و«استحالة» الكتابة عن العالم على نصوصه، ويبدو أنه لا يتحدث عن شيء ما، بل عن ظلال وأشباح لكائن ما، وتظهر اللغة كأداة محدودة وغير قادرة على فعل شيء أمام محنة الوجود.
في شعره وبعد ذلك في رواياته نرى اللغة في امتحان أمام نفسها، وبما أنه يكتب عموماً عن انهيار الحدود الفاصلة بين ما هو حقيقي وما هو وهم فإن مصير الإنسان لديه يتحدد عبر الصدفة. يخلق عالماً تولد فيه الأحداث للشخصيات الإنسانية، والتي ينعطف فيها مسار حياتها بفعل اللامنطقي واللامسبب من أجل أن تتخذ درباً لم تقرره أو تخطط له.
بين ضفتي الأنا والآخر، بين الوجوه الحقيقية والأقنعة يتأرجح أدب بول أوستر. من خلال المفاجأة واللامتوقع يتحدد مصير الكائن. كأنما الكلمات في أدبه تلتقي دونما سبب كي تبحث عن أسبابها. الكائن البشري في نصوصه عرضة لرياح المفاجآت والحوادث التي ترسم مصيره. تبحث الشخصيات في جوع أبدي لا ينتهي عن أسمائها، وعن أسباب وجودها، وفي بحثها عن الإجابة لا تجد في النهاية سوى الشك والريبة، ولكي تستمر في هذا الوجود عليها أن تصنع الأقنعة وترتديها، وبهذا تتلاشى الحدود الفاصلة بين الوهم والحقيقة.
ليالٍ بيضاء
لا أحد هُنا
ويقول الجسدُ: كلُّ ما يقالُ
لا يجبُ أن يقال.
لكن لا أحدَ جسدٌ كذلك،
وما يقولهُ الجسد لا يسمعه أحدٌ
إلا أنت.
ليلٌ، وثلجٌ يتساقط، تكرارُ جريمةٍ
بين الأشجار.
يتحرك القلم عبر الأرض: لم يعد يعرفُ
ما الذي سيحدث، واليد الممسكةُ به
اختفت.
مع هذا، لا زال يكتب
إنه يكتبُ: في البداية
جسدٌ بين الأشجار،
من الليل جاء يسير. يكتب:
بياضُ الجسد هو لون الأرض.
هو الأرض، والأرض تكتبُ: كلُّ شيءٍ
هو لون الصمت.
أنا لم أعُد هنا. أنا لم أقل أبداً
ما تقول أنِّي قُلتُه.
مع هذا، الجسدُ مكانٌ
حيث لا شيء يموت. وفي كلِّ ليلةٍ،
من بين صمتِ الأشجار، أنتَ تعرفُ
أن صوتي
يأتي ماشياً نحوك.
إنذار
أتنفسُكِ
ثم أنفثك خارجاً عنّي.
أخدِّرُكِ بينما أُآخي الضوء
أرضعُكِ
حتى حثالة الكارثة.
السَّماءُ تُثبِّت نجمةً شريدةً
فوق صدري. أرى الريحَ
كشاهدٍ، الليل الشاهق
الذي عبرَ، في متاهةِ سنديانٍ،
المسافةَ.
أتَلبَّسُكِ
إلى حدود الأسى،
أحلبُ منك القوة.
(…)
أصبحُ
ضرورتكِ
وأعنفَ وريث لك.
نبض
هذا الذي يتراجعُ
سوف يأتي بالقرب منّا
في الجانب الآخر من اليوم.
خريفٌ: ورقةُ شجرٍ واحدة
أكلها الضوءُ: والتحديقة الخضراء
للخضرة فوقنا.
حيث لا تتوقف الأرض،
نحن، كذلك، سنصبح هذا الضوء،
حتى والضوء يموت
على هيئة ورقة شجر.
عينٌ مفتوحة
على جوع النهار.
في المكان الذي لم نكن به
سنكون. شجرةٌ
ستمدُّ جذورها فينا
وستصعد في ضوء
أفواهنا.
سيقف اليوم أمامنا
سيتبعنا اليوم
إلى اليوم.
في ذكرى نفسي
ببساطة، قد تتوقف
كما لو أنني يمكن أن أبدأ
حيث توقف صوتي، نفسي
صوت كلمة.
لا أستطيع الكلام.
صمتٌ شاملٌ
يأتي كي يحيا
في هذا اللحم المستغرق في الحلم
دقٌّ لطبول الكلمات
في الداخل، الكثير من الكلمات.
ضائعٌ في العالم الواسع
بداخلي، أن أكون على دراية به
على الرغم منّي.
أنا هنا.
كما لو كان هذا هو العالم.
مقتطفات من السيرة الذاتية
وصلني خبر وفاة أبي قبل ثلاثة أسابيع. كان ذلك صباح يوم أحد، بينما كنت في المطبخ أجهِّز الإفطار لابني الصغير دانييل. كانت زوجتي في الطابق العلوي لا تزال في السرير، دافئة تحت الغطاء، تستمتع بساعات نوم إضافية. الشتاء في الرِّيف: عالمٌ من الصمت، دخان الخشب، بياض. كان ذهني ممتلئاً بالأفكار، بالنص الذي كنت أكتبه ليلة الأمس، وكنت أتطلع لوقت ما بعد الظهر حين سأتمكن من العودة للعمل، ثم دق الهاتف. أحسست في نفس اللحظة أن هناك مشكلة. لا أحد يتصل في الثامنة صباحاً في يوم أحد إلا لإيصال خبر لا يحتمل الانتظار، والأخبار التي لا تحتمل الانتظار هي دائماً أخبار سيئة.
حتى قبل أن نحزم حقائبنا ونبدأ رحلة مدتها ثلاث ساعات باتجاه نيوجيرسي، كان لديَّ شعور أنني يجب أن أكتب عن أبي. لم يكن لديَّ أية خطط، ولا أدنى فكرة عما يعنيه ذلك، حتى أنني لا أتذكر أنني قررت ذلك. كان هذا ببساطه موجوداً، كما لو أنه يقين، أو واجبٌ بدأ يفرض نفسه عليَّ ما إن تلقيت الخبر. فكّرت: لقد رحل أبي. إذا لم أبدأ بسرعة حياته كلَّها ستتلاشى معه.
عندما أنظر إلى الأمر الآن، على الرغم من مرور فترة وجيزة هي ثلاثة أسابيع، أشعر أن هذه ردة فعل بها شيء من الفضول. لقد كنت أتوقع دوماً أن الموت سيجعلني أتجمَّد، أن الحزن سيشعرني بعجز في الحركة، ولكن، الآن، وبعد حدوثه، لم تدمع عيني، ولم أشعر أن العالم سينهار من حولي. كنت، وبشكل غريب، كنت كمن قد استعدَّ لقبول هذا الموت، على الرغم من المفاجأة. ما أزعجني أمر آخر، شيء ليس له علاقة بالموت أو ردة فعلي تجاهه: إنه إدراكي أن أبي قد رحل ولم يترك خلفه أي أثر.
كان بلا زوجة، بلا عائلة تعتمد عليه، لا أحد قد تتأثر حياته بغيابه. ستكون لحظة صدمة قصيرة، لأصدقاء متناثرين، لحظة يقظة سببها فكرة موت مفاجئ أكثر من خسارة صديقهم، تتبعها فترة قصيرة من الرثاء، ثم لا شيء. في النهاية قد يبدو الأمر على أنه لم يعِش هذه الحياة أبداً.
كان غائباً حتى قبل موته، ومنذ زمن طويل تقبل أصدقاؤه المقربون هذا الغياب، وأن يعاملوه كحقيقة أساس لوجوده.
والآن بما أنه رحل، فلن يكون من الصعب على العالم هضم حقيقة أنه غاب إلى الأبد.
كان أسلوب حياته يهيأ من حوله لاستقبال موته. كان كمن هو خالٍ من العاطفة أكان ذلك تجاه شخص أو أفكار. كان غير قادر أو غير مهتم أن ينفتح على أحد، وقد نجح في ترك
مسافة من الحياة، وتحاشى أن يكون مرتبطاً بالأشياء. كان يأكل ويذهب إلى العمل، وكان له
أصدقاء، وكان يلعب كرة التنِس ومع كل هذا لم يكن موجوداً. بشكل أو بآخر كان رجلاً غير مرئي، غير مرئي من الآخرين وغير مرئي من نفسه كذلك، والآن بما أنه ميت لا زلت أشعر أنه يمكنني الذهاب للبحث عنه، كما لو أن الموت لم يغير أي شيء. الفرق الوحيد هو أن الوقت قد فات.
من أقواله
* كانت القراءة دائما الشيء الذي أهرب إليه، كانت هي راحتي. هي التي تعلمني الاختيار، القراءة لمتعة القراءة فقط، في ذلك العالم الجميل الصامت الذي يحيط بك وأنت تسمع كلمات الكاتب تُدوي في رأسك».
* تحدث القصص فقط لأولئك الذين يستطيعون سردها.
* عندما يكون الإنسان محظوظاً ويعيش في قصة، يعيش في عالمٍ متخيل، تختفي آلام العالم. لأنه مادامت القصة مستمرة، فإن الواقع غير موجود.
* الكتب لا يمكن أن تختفي أو تموت. هذا مستحيل. إنها الوقت الوحيد الذي نتمكن فيه من الذهاب إلى عقل شخص غريب، ونجد أن حدوث هذا الشيء إنساني وطبيعي. لهذا فإن الكتاب لا ينتمي دوماً لكاتبه، إنه ينتمي للقارئ أيضاً، ومعاً يخلقان الكتاب.
* لن يتمكن القلم من التحرك بسرعة ليكتب كل كلمة يتم اكتشافها في فضاء الذاكرة. شيء ما نقده إلى الأبد. لربما يتم تذكّر بعض الأشياء مرة أخرى. ومع هذا ستبقى هناك أشياء تُفقد، ثم تعود، ثم تُفقد ثانية. لايوجد أي طريقة لكي نتأكد من كل هذا.
* المكتبات لا توجد في عالمنا هذا، إنها محميات الأفكار. بهذه الطريقة أستطيع أن أذهب وأعيش على القمر إلى ما تبقى من أيام حياتي.
________
*الاتحاد الثقافي