إيتل عدنان: أنا عابرة سبيل بهويات عديدة


*أحلام الطاهر



باريس- هل يستطيع أي شخصٍ أن يُحافظ على عافيته في باريس؟ البارحة أيضاً نمتُ على فصل «المرآة النجمية أو القمرية» من كتاب المعادن الذي ألّفه أحدُ علماء القرن السابع عشر ويدعى برنار تشيسي. يُقال إن ازدهار فن السيرة الذاتية إنما يرجع إلى ذلك الوقت الذي توصّل فيه الإنسان إلى صنع مرايا جيّدة. باريس مغمورة بالضباب هذا الصباح وملصقات دافيد بوي تملأ أركان المترو. يقودني بحثي المحموم عن الأوهام التي تُستثار من خلال كوكب سماوي لامع أو سطح صقيل أو ماء صافٍ إلى شاشة كبيرة في مركز بومبيدو تعرض فيديو لجون بالدساري، وهو يحاول أن يعلّم الأبجدية لنبتة منزلية، أو يُحدِث خطّا مستقيما في السماء من خلال رمي ثلاث كرات في الوقت نفسه. ما يُعيد إلى الذهن السطر الاستهلالي من مسرحية بيكيت: «لا شيء نفعله»، الكلمات يتفوه بها استراغون بسأمٍ تام ونعاس لا سبيل إلى التخفيف منه. أعدِل عن فكرة أخذ نبتة معي إلى إيتل عدنان، وهي التي تسكن قرب حديقة لوكسمبورغ وترى نبات اللبلاب المنسدل على البيوت والجسور مثل شَعرٍ غير مُمَشّط. بنايات الدائرة السادسة ترسم مشهد الحب الذي جمع ميشال مورغان مع جان غابان في فيلم «ميناء الضباب»، حُجرة المعيشة المذهّبة والشرفة نصف الدائرية، وحزم الدخان ذات الرائحة الذكية التي تتصاعد من المدخنة – ومن ثم تفرّقها الرياح – وأسقف الآجر القرمزية المتشابكة. أسيرُ كالمسرنمة ناظرة إلى قباب النوافذ وأصطدم بشخص يتحسّس أجزاء من جسمه بحثاً عن علبة سجائر. إيتل عدنان تتحولُ تدريجياً إلى أحد تلك الرموز التي تسكن المناطق السفليّة من الذاكرة الجماعيّة، عرفت كيف تتنفس بعيداً عن مصيدة الآخرين، ولذلك يبدو لي كل ما يحيط بها مُلبّداً بشعور باللاّواقعية، حتى فتحت الباب وخطفت من يدي علبة الشوكولا بمرحٍ، قائلة إنني أبدو مثل امرأة في منمنمة فارسية. تجاوزنا مائدة هائلة من خشب ذات سطح بلون الرمل الباهت الذي نراه على الشواطئ. كانت أبواب الغرف مشرعة، وعلى المدفأة مغلفات رسائل كُتبت بخط متعرج أنيق: «إلى إيتل عدنان وسيمون فتّال». أُخرج من حقيبتي دفتراً – من يوغسلافيا السابقة – كنت قد احتفظتُ به للمناسبات الاستثنائية وأسالها:
هل تفضّلين الحديث بالعربية أم بالفرنسية؟
– بالفرنسية للأسف! كانت أمي يونانية، ولم نتحدث العربية في البيت، المدارس الفرنسية كانت قد أعلنت الحرب على العربية آنذاك. لست ضد الفرنكفونية، فالفرنسية لغة عالمية لها خصوصيتها لكن ليس على حساب اللغة العربية.
■ وُلدت إيتل عدنان عام 1925 لأب سوري كان ضابطاً في الجيش العثماني والتقى والدتها اليونانية إبان الحرب العالمية الأولى. كانت تنقل حروفاً تركية وعربية على دفترها من دون أن تفهمها. تجربة ستترجمها في ما بعد وهي تكتبُ بخط اليد قصائد لأنسي الحاج وبدر شاكر السياب وعيسى مخلوف وآخرين على دفاتر من ورق الأرز المطوية على شكل أكورديون (ليبوريلو) لكنها ترتجلُ لمساتها اللونية من بيروت التي شهِدت ولادتها الأدبية الأولى قبل أن تُكرَّس في الولايات المتحدة بين كبار الكتاب الأميركيين.
– لديّ ذكريات متوهجة حادة عن بيروت، كنّا نرى البحر من كل الجهات، إنها مدينة متوسطية بسطوح من القرميد الأحمر وبيوتٍ ذات طابع عمراني إيطالي. السيارات وقتها كانت نادرة والشوارع تعبقُ برائحة الياسمين والبرتقال. كنت من الفتيات الأُوَل اللواتي ذهبن للسباحة، إنه امتياز في الثلاثينات.
■ تُسائل هيلين سيكسو في «بصمات الجذور» ممّ ينطلق المرء في الكتابة، عندما يكون صغيراً، عندما يبدأ؟ أولاً: من حقيقة أنه رُمي إلى اللغة وأنه يعرف كيف يسبح فيها. إيتل عدنان بدأت رحلتها بقصيدة طويلة عن البحر. بدايةٌ فتحت حواسها على التأمل المبكّر، ومزجت كتاباتها التالية مع خلاصاتٍ فلسفية وصوفية متحصلة من حياةٍ موزعة في أمكنة ولغاتٍ مختلفة بين بيروت وباريس وكاليفورنيا، لكن شعرها ارتبط بحروب وثورات كثيرة: فلسطين ولبنان والعراق، حرب الفيتنام التي كتبت ضدّها قصيدة شهرتها في الولايات المتحدة، وحرب التحرير الجزائريّة التي جعلتها تنقطع عن الكتابة بالفرنسيّة لأنها فطنت إلى المضامين السياسية للكتابة باللغة الفرنسية: ماذا فعلتِ حيال الحروب وكيف عشتها؟ هل تغيرت مقاربة الكتاب المعاصرين للحرب؟
– تغنّى القدماء بالحرب لأنها كانت مرادفاً للبطولة، أما اليوم، فأغلبية الكُتّاب ضد الحرب، لأنها لم تعد حرب رجلٍ ضد رجل، بل حربُ أسلحةٍ في مواجهة أسلحة أخرى لا توجدُ أيّ بطولة في الموت بقذيفة أو صاروخ باليستي. حتى في الحرب، قديماً كان هناك جانب إنساني، لأنك تجدُ نفسكَ وجهاً لوجه مع خصمك، تنظرُ مباشرة إلى عينيه. اليوم العدو غير مرئيّ والأمجادُ واهية، لا يزال هناك جنود يثبتون شجاعتهم أحياناً، لكن الرابح ليس الأذكى بل من يمتلك الآلات الأكثر تطوّراً. كتبنا عن الحرب لأننا كن نتوق إلى إعادة إعمار بلداننا، وكل ما نفعله أننا نخرّبها. ليس هذا خطأ البلدان العربية وحدها، إنه الوضع العالمي، البلدان المسيطرة بحاجة إلى المال، وسوق الأسلحة عليه أن يزدهر، نحن في قلب هذه المعضلة.
■ إلى أي حد يمكن للكتابة عن الحرب أن تستقطب الاهتمام أو القبول؟ عادة ما يُنتقَص منها وتُوصف بالإيديولوجية، قصيدة «كرة قدم أميركية» لهارولد بنتر على سبيل المثال رفضت الغارديان نشرها لأنه كتبها عن حرب العراق. هل يُعد هذا الموضوع للأكاديميات، لدراسة المجتمعات لا للفن؟
– ليس لدي إيديولوجيات، أنا مع القوى الإيجابية، أرى أننا نملك تراثاً حضارياً وأدبياً مُبهراً: الفلسفة العمارة الصوفية، هذا يمس كل المجالات، لكننا لا نتقدم بسبب فداحة عيوبنا أولاً ثم بسبب السياسية العالمية العدائية.
■ متى بدأت الكتابة بالفرنسية ولماذا؟ ما الذي يتغير حين نغير اللغة؟
– لقد بدأتُ الكتابة بالفرنسية قبل الانكليزية لأنني تعلمتُ الفرنسية في بيروت، وكان الانتقال من الفرنسية إلى الانكليزية حين سافرت إلى أميركا سنة 1955 رحلة صعبة. قبل ذلك لم أكتب شيئاً يُذكَر، عدا «كتاب البحر» الذي ترجمه عابد عازرية. اللغة لها تأثير كبير، لأن لها عالمها وصورها الخاصة، كلمة «بحر» مثلا في العربية مذكر وترمز إلى شاب فتي يتحدى العاصفة. في الفرنسية كلمة «بحر» مؤنثة وتجر معها صوراً أمومية ليّنة، أما في الانكليزية فهي محايدة تماماً. أنا أعطيكِ مثالا.. ما نقوله بسهولة في لغة ما يتعذر قوله في لغة أخرى، فضلا عن أن لكل لغة موسيقاها الخاصة لذلك لا نجد شكسبير فرنسيا، الفرنسية لغة مسطحة نوعاً ما، هادئة. أما الانكليزية فتشعرين أن الريح تخترقها، حاولي نطق كلمة «wind». في المجال العلمي نقول الشيء نفسه تقريباً بكل اللغات أما في الشعر فيختلف الأمر كثيراً لأنه مرتبط باللاّوعي، بالرغبات والجموح. إذن اللغة نفسها تأتي بعالم كامل معها. لا أعرف ما الذي كنت أستطيع كتابته لو تعلمتُ العربية، إنها جنتي الضائعة، المغلقة إلى الأبد. ولأنني عشت في أميركا، كان عليّ أن أكسب عيشي، انشغلت بتدريس الانكليزية والفلسفة وبالكتابة. لكنني أؤمن أنه لا توجد لغة أم، اللغة أداة نتشبث بها، أحب الإنكليزية لأنها لغة سريعة، ما نقوله في جملة طويلة لا يتطلب أكثر من كلمتين بالانكليزية، العربية أيضا سريعة وحيوية ونبرتها لمن يتذوقها، غاية في الجمال.
■ عند عودتها إلى باريس عام 1979، قررت الفنانة الأدائية صوفي كال أن تلاحق بكاميرتها كل يوم شخصاً مجهولاً مثل مخبر سري وتكتب عنه. وطلبت من 28 شخصاً النوم في سريرها، والتقطت صوراً لكل منهم بعد أن يغط في نوم عميق، كما سعت للعمل خادمة في فندق، لتدخل غرف النزلاء وتصوّر ما يتركونه من أغراض حميمة. أتمنى أنك لم تحتاجي إلى مثل هذه الحلول المتطرفة عند وصولكِ إلى باريس؟
– كنت قد زرتُ فرنسا عدة مرات من قبل، حصلتُ على منحة دراسية سنة 1949، كانت الدولة الفرنسية تقدمها كل عام للطلبة اللبنانيين. وصلت إلى باريس واصطدمت بعالم جديد. عشت في السكن الجامعي الأميركي، كانوا يحاولون دمج الجنسيات مع بعضها بعضا كي لا تتحول تلك المساكن إلى غيتو، ولم يكن للبنانيين جناح خاص بهم. في تلك الأثناء كان كل شيء يدهشني. لم أكن قد رأيت المترو من قبل، الباصات.. هناك ترامواي فقط في لبنان. لذلك لم أدرس كثيراً، شغلت باريس كل وقتي. تعلمتُ من المشي أكثر مما تتعلمت من الدروس، لكنني حاولت أن أواظب، في ذلك الوقت في السوربون حظينا بدكاترة خارقين مثل غاستون باشلار وإيتيان سوريو، وخيّم على الناس شعور بانتهاء الحرب. أوّل علاقة لي بالحرب كانت في فترة ما بعد الحرب تلك في باريس، وصلت في نوفمبر 1949 وكان الناس يتحدثون حول الحرب بلا توقّف، لم تكن باريس قد دُمّرت لكن النفوس بقيت مهزوزة. العديد من أصدقائي فقدوا أباً أو قريباً.
■ التقيتِ أوائل الطلاب الأميركيين في فرنسا، وقرّرت أن تعبري معهم الأطلسي؟
– بعد دراسة الفلسفة في السوربون، التحقتُ بجامعة بيركلي عام 1955 وبعدها جامعة هارفارد. كانت أميركا مفاجأة أخرى، بلدٌ واسع وبلا حدود. كان عليّ أن أعتاد قرب الناس، أجسادهم وحضورهم الفيزيائي، عرفت مثلاً الأهمية المطلقة التي تحظى بها كرة القدم في الجامعات الأميركية، فيما الطلاب الفرنسيون لا يتحدثون عن الرياضة أبداً ولا يعيرونها أي اهتمام. أحببتُ أميركا كثيراً، كانت بداية الستينات وبداية الثورة الثقافية التي عشتُها في جهة كاليفورنيا.
■ راكمتِ تجربة غنية ومتشعّبة، بين ثلاث قارات، في الشعر والتشكيل والرواية والمسرح. قصائدكِ بالإنكليزية ومنها «يوم في نيويورك»، «قصائد الزيزفون»، «قيامة العربي»، «في قلب قلب وطن آخر»، نقلها إلى العربية شعراء بارزون مثل خالد النجار وسعدي يوسف ويوسف الخال. سركون بولص هو الآخر ترجم كتابك «هناك ــ في ضياء وظلمة النفس والآخر» ويتضمن ديوانه الأوّل قصيدة عنكِ. هل كان يحكي عن جزيرة ما؟ عن يد ممدودة عضها كلب؟
– نعم! كنتُ أُريه جزيرة في القصيدة. عرفتُ سركون بولص في بيروت، في منتصف الستينات، التقيته عند يوسف الخال، كان شاباً وشاعراً جميلًا. قال إن قصائدي ألهمته لأنه أول شاعر عربي يترجم أعمالي لمجلة «شعر». انتقل إلى أميركا، وساعدتُه على ربط علاقات هناك، كنت «sponsor» سركون بشكل ما. حين وصل عندي كان يعاني الرشح ونام أسبوعاً كاملاً في الصالون. أوصلته إلى بيركلي التي لم تكن بعيدة عن مكان سكني، ووجدت له عملاً صغيراً، موزّع رسائل في شركة بوينغ. عرّفته على فيوليت يعقوب التي تمكنت من الحصول على منحة دراسية باسمه. بعد ذلك تباعدت لقاءاتنا، سمعت بعدها أنه ذهب إلى ألمانيا وتزوج هناك. بالنسبة الي سركون هو نسمة عليلة في الشعر العربي لقد كان شاعراً بحق، لا يبدي اهتماماً بأيّ شيء خارج دائرة الشعر، كان يجد صعوبة بالغة في التأقلم مع العالم، مع المشاغل اليومية.. يريد أن يحلم ويقرأ. لم تتمكن البلاغة العربية من سحق سركون، لم يكن يبالي كثيراً بشعر القدماء، كان نظره مشدودا للبعيد، للحداثة الروسية والأميركية.
■ أسّس حيان شرارة وفادي جودة جائزة باسمك تُعطَى لشبان أميركيين من أصول عربية ينشرون أوّل ديوان باللغة الإنكليزية، كيف ترين كتابات هؤلاء الشبان، مقارنة بكتابات خالد مطاوع ولورانس جوزيف وناعومي شهاب ناي؟ هل هناك تقبّل أكثر من المجتمع الأميركي؟
ـــ هناك ما يُعرف بالأدب العربي ـ الأميركي، لكنه لا يُدرَّس في الجامعات، على عكس الأدب اللاتيني ـ الأميركي، أو الصيني ـ الأميركي. باستثناء حالات فردية فكتبي تُدرَّس على سبيل المثال، لكن لا وجود لفرع مخصص لكتاب أميركا العرب، ربما لأنهم يرون أن عددنا قليل! لكن الكُتّاب الشباب تلقوا المعاملة نفسها التي تلقيناها نحن. هم لا يتعرّضون لمضايقات عنصرية في نظري. أميركا بلد «الشركة» الحرة ليس في الاقتصاد فقط، بل في الأدب أيضاً، عليك أن تفرض نفسك، لن يأتي أحد ليطرق بابك ويمدّ لك يد العون، ليس لأنك عربي ـ أميركي، لا، لأنهم لا يساعدون أحداً، ومن هنا تأتي الطاقة الهائلة التي تُسّير أميركا، على الفرد أن يتدبر أمره لبلوغ أهدافه.
■ عشتِ في سان فرانسيسكو، كان هنالك نشاط هائل على ساحل المحيط الهادي. تبدين حاضرة في المشهد الأميركي أكثر من العربي أو الفرنسي. كان روبرت بلاي قد أسس مجلة «خمسينات» التي جددت قصيدة النثر، وكانت هناك حركة ثقافية رفضت الهيمنة والعنف وانتقدت الحروب الأميركية ولا سيما حرب فيتنام، وتحرك روّادها مثل كاسيدي وغينسبرغ وكيرواك في الشارع من خلال التحدّث بلغته والانفتاح على الآخر «الأفرو – أميركي».
ـــ في أميركا اكتشفتُ أن بوسع الأدب أن يكون سلاحاً سياسياً، السياسة ليست الحرب أو المناظرات بين الأحزاب. كل ما يحيط بنا مُسيّس، روّج سارتر الفكرة نفسها بشدّة في باريس. إنها الصحوة والانتباه لكوننا جميعاً مسيّسين، فمقاطعة السياسة – كالامتناع عن التصويت وقراءة الجريدة – هي في حد ذاتها فعل سياسي. علاقتكِ بالناس لا تنحصر في تقاسم وجبة عشاء معهم. عليكِ أن تدركي أن قراراتهم لها تأثير مباشر على حياتكِ وأفعالكِ وأنك تؤثرين عليهم بالمقابل ولو بشكل طفيف وغير مرئي. الحرب كانت احدى مظاهر الالتزام السياسي لكنها ليست كل شيء، فهناك مشكلة السود والمهاجرين والعمل غير الشرعي والأجور الزهيدة. هؤلاء الشعراء كانوا يريدون ردّ اعتبار المواطن لأن حق الانتخاب لا يكفي. المواطنون في الولايات المتحدة يشاركون في الحياة السياسية، في التفاصيل الصغيرة على الأقل. لا يحق لك أن تقطع شجرة دون أن يجتمع كل أهالي الحي ويتخّذوا قراراً بشأن ذلك، أعتقد أن هذا مهم.
■ لعلّ روح التضامن في هذا التيار الحيوي الذي يجمع بين الالتزام الاجتماعي، السياسي والجنسي، خلق نوعاً من السكينة لديك ولدى شاعرات من أمثال مارلين هاكر وأدريان ريتش التي كتبت عن حرب العراق وفيتنام وكتبت قصائد عن الحب المثلي «22 قصيدة حب»، أنت بدورك نلت جائزة «لامبدا» للشعر المثلي.
ـــ أوه .. أدريان أعرفها حق المعرفة، كانت تسكنُ قريباً مني وتحضر قراءاتي الشعرية، هي تُعطي دروساً في كاليفورنيا، على بعد ساعتين بالسيارة من سان فرانسيسكو.
■ تقولين «كان محرّماً على النساء أن يبحثن عن الحب، وهكذا توقفن عن البحث عن الفردوس» هل تعرّفتِ على أسماء بارزة في الكتابات النسوية الإنكليزية؟ شاركتِ بكتابات نظرية بهذا الخصوص؟
ـــ تعرفتُ على نسويات كثيرات، لكن ليس قبل منتصف السبعينات، لقد دعمن روايتي النسوية التي تُعرّف بالحرب الأهلية اللبنانية – «الست ماري روز» (1977) الفائزة بجائزة جمعية الصداقة الفرنسية العربية، لكن علينا ألا ننزلق للسهولة ونصف النسوية بأنها حركة متحاملة على الرجال. كانت هنالك رغبة حقيقية في الحوار لا القطيعة. ثمة نساء تعرضن للعنف الجسدي والنفسي ورفضن بالتالي أن يؤدي الرجل أي دور في حياتهن، لكنني لا أنتمي إليهن، أغلبية النساء ينشدن الاحترام وحسب. تلاحظين حتى في أيامنا هذه، حين يجتمع الرجال للحديث في مكان ما وتدخل امرأة يصمتون فجأة ويغيرون دفة الحديث، لماذا؟ ينتقون المواضيع التي ليس على المرأة الخوض فيها؟ مرة سألني أحد طلّابي العرب «شو بدك منا؟» وأجبته «أريدكم أن تسمعونا، أن تنصتوا لما نقوله» وفاجأَته الإجابة لعلّه توقع أن أُحدّثه عن الفجوة في الأجور بين الجنسين!
■ من قصيدتك «خمس حواس لموت واحد» أذكر هذا المقطع « بيروت باريس نيويورك بيركلي لوس أنجلوس/ محطّاتُ صليبكِ/ أيدٍ تتنقل فوق المدن/ واحدة واحدة تمتحن الدروب/ كنتِ رامبو وكاتي هيبورن/ ونحن كتبنا/ آيات القرآن/ على عظامك» قصيدة كتبتها عن انتحار صديقة لك، ترجمها يوسف الخال في مجلة «شعر»، لكنّه تردد في ذلك لأنها تخاطب المؤنّث، قبل أن يرضخ لإصرارك على عدم تغيير الحبيب المخاطب إلى صيغة المذكّر!
ـــ لقد أطرق يوسف الخال قليلاً ثم قال «طيب». لم تكن قصيدة حب تقليدية، قرأها خالد النجار على راديو تونس لأسبوع كامل، لديك الكتاب؟ لا؟ سأهديك إياه، إنها نسخة نادرة عديني أن تحتفظي بها.
■ لا تنحصر هموم إيتل عدنان في حدود ضيقة، لا نجد في كتاباتها تلك الأوهام الريفية الرومانتيكية التي شغلت جيلها العربي؟
ـــ أحب الطبيعة: الجبال النهر الضوء، لكني بنت المدينة. لم أعش في الريف أبداً، ثم إنني غير مُطّلعة بشكل كافٍ على الكتابات العربية. الأشياء السيئة لها جانب إيجابي أحياناً، لا أستطيع تقليد ما أجهَلُه. من بين الشعراء الذين أثروا بي، بدر شاكر السياب وبلند الحيدري وطلال حيدر وعباس بيضون أما يوسف الخال فقد حماني وشجّعني على العودة إلى لبنان بعد سنوات من تدريس الفلسفة في الولايات المتحدة. كنتُ أعتقد أنها عودة نهائية لكن المجزرة/ الحرب بدأت عام 1975 واضطرتني للرحيل من جديد.
■ هل ثمة ما يستحوذ على تفكيركِ أخيراً؟
ـــ نحن في نقطة حرجة من تاريخنا، لقد قاتلنا من أجل العالم العربي وهذا لم يحمِه من الانزلاق إلى الجحيم . بأي حق دُمّرت ليبيا وقُتل القذافي ومُنع الإخوان المسلمون – ولا تظنّي أنني في صفّهم ـ من ممارسة حقّهم السياسي في مصر؟ في سوريا قبل بضع سنوات كان هنالك أكثر من ثمانين فريق بحث أركيولوجي! انظري ما يحدث اليوم. هذه الأشياء تشغل تفكيري كثيراً. ليس لبنان وحده ما يهمني، لقد زرتُ تونس سنة 1966 وأحسست أنني في بيتي وبين أهلي. لم تعترضني أي صعوبة في فهم اللغة. كان بلداً له مستقبل، ورأيت بورقيبة خارجاً من مركز الاذاعة وسط الحشود المتحمسة. لديه نظرة ساحرة. كان الأكثر حكمة وعقلانية بين كل الحكام العرب، وعبد الناصر كان يجسّد كل ما يطمح إليه العربي. أما اليوم فبلداننا مقسّمة ومشتتة. كي نواجه المشاكل التي تأتي من الخارج، نحتاج إلى أشخاص استثنائيين.
■ في نصك «قوة الموت» تصفين الحب بهذه القسوة: قد يبدو أنه لا جديد في قصص الحب، لكنه كان يعيش حياته من جديد، بحدّة، حتى إن العالم كان يُخلق من جديد بألمه. وكان ينحدر في هاوية ذات أبعاد مخيفة.
ـــ الحب خطير جداً، الحب أخطر شيء في العالم. إنه السبب الرئيسي لليأس والجنون والانتحار، لكن رغم ذلك، علينا أن نُوقف محاولاتنا الإفلات من قبضته.
■ يشدّنا الاحساس بالعبور والانتقال الدائم في كتاباتك، ثمة شيء طيفي لكنه نضِرٌ ومتوهّج على الدوام، في «أساتذة الكسوف» تأخذيننا إلى أماكن مختلفة من العالم، هناك قصة عن راديو بدمشق.
ـــ لم أشعر يوماً بالانتماء إلى أي شيء، كان والدي يقول إننا عابرو سبيل في هذه الأرض، هذه طريقة تفكير إسلامية، العالم الاسلامي لديه ثقافة مبنية على الموت لأن صورة الإله مهيمنة. نحن متلهفون إلى المطلق، لدرجة صارت فيها الحياة ثانوية.
________
كلمات
العدد ٢٨٢٤

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *