حين خطّأ هيوم التصور السائد حول السببية التي تقوم على الضرورة


*محسن المحمدي


تعد لفظة «السببية»، من الألفاظ الشائعة جدا، ليست فقط في إطار العلم، بل حتى في لغتنا الدارجة. فنسمع كلاما وكأنه قول مأثور من قبيل «لكل شيء سبب»، أو إذا «عرف السبب بطل العجب»، أو «تعددت الأسباب والموت واحد». وهذا يدل على توغل الاستدلال بطريق السببية، لتفسير الأشياء، إلى عمق التفكير البشري. فالحرارة سبب تمدد الحديد. وكسر الأنف، في ملاكمة، هو نتيجة اللكمة. وارتفاع منسوب الزئبق في الترمومتر، هو نتيجة ارتفاع الحرارة. ووجود أثر قدم في مكان، يدل على أن شخصا قد مر من هناك. ووجود الغيوم يدل على تساقط المطر. وهكذا، فحياتنا مغمورة بالأحداث التي تفسر وفق السبب الذي تتبعه النتيجة. فالعقل البشري، يرى الطبيعة تتصرف وفق هيئة مطردة ونظام ثابت. فهي ليست فوضى ولا خبط عشواء. إذ لا تحصل الأحداث من دون أسباب. لهذا يعد مبدأ «إن لكل شيء سببا»، مبدأ أساسيا في كل معرفة بشرية عامة أو علمية.
إن مبدأ السببية، يبدو واضحا حتى في مملكة الحيوان. فالحيوانات، تتجنب مثلا، مكانا تعرضت فيه للأذى في الماضي، ظنا منها أن ما آذاها مرة يمكن أن يؤذيها مرة أخرى. كما أنها تعود إلى المكان الذي وجدت فيه غذاءها يوما. فالحيوانات تتحرك، بدورها، وفق مبدأ التكرار والتتابع، وكأن في ذهنها، يترابط السبب والنتيجة، أو ما يسميه العقل البشري، «اطراد الطبيعة»، أي أن ما حدث مرة سوف يحدث ثانية في الظروف المتشابهة. فالأمور تسير وفق نمط واحد ومحدد.
إن التفسير بالسببية، أمر صاحب الإنسان على الدوام. فمثلا، في العصور القديمة والعصور الوسطى، اعتبرت السببية العنصر الأساسي والحاسم، سواء في الفيزياء لتفسير الظواهر الطبيعية أو ما وراء الطبيعية، لإثبات وجود كائن أسمى، هو علة أولى، أو صانع، أو محرك أول، أو منظم ومتحكم في سير الظواهر. وإذا ما أخذنا نموذج أرسطو باعتباره المعلم الأول، فنحن نعرف أنه قد وضع للظواهر أربعة أسباب، وهي: السبب الصوري، والسبب المادي، والسبب الفاعل، والسبب الغائي. فإذا أخذنا الكرسي، فسببه الصوري هو شكله، وسبب المادي هو الخشب، وسببه الفاعل هو النجار، وسببه الغائي هو الجلوس.
أما في الزمن الحديث، فسيجري الاقتصار فقط على سبب واحد هو السبب الفاعل، وسيعتبر الركيزة الأساس للعلم الحديث. فالعلوم الطبيعية، منذ غاليليو حتى الآن، تتم بفضل العبارة الشرطية» إذا.. فإن..» وتعبر عن مبدأ السببية، باعتباره يقوم على خاصية الضرورة، التي هي روح قوانين العلم. هذا المبدأ، سيقود إلى نزعة ميكانيكية، ستجر إلى القول بنظرة تسودها الحتمية. أي أن أحداث العالم الحالية، مرتبطة بأحداث العالم السابقة، وهي بدورها أساس للاحق من الأحداث. وهذا ما روج له العالم بيير سيمون دو لابلاس «1749 / 1827»، باعتباره أحد أقطاب الفيزياء الكلاسيكية، وأقوى دعاة الحتمية.
لقد اعتقد معظم الفلاسفة والعلماء، أن مبدأ السببية يحمل سمة الضرورة، وأن عدم افتراض هذه الضرورة سيجعل صياغة قوانين الطبيعة أمرا غير ممكن، ومن ثم ستهتز أركان العلم. فمن المستحيل مثلا، تصور قطعة من الحديد جرى تسخينها من دون أن تتمدد، وأن جسما ترك في الهواء ولم يسقط، أو أن وجود النار لا يؤدي إلى الحرق. فبين السبب الفاعل والنتيجة المترتبة عليه، هناك ضرورة لازمة.
لكن مع مجيء الفيلسوف ديفيد هيوم، في القرن الثامن عشر، سيتغير الأمر إذ سيعمل هذا الرجل على إزعاج العلم بإثبات خطأ التصور السائد حول مبدأ السببية، وأنه يقوم على الضرورة. لقد بث هيوم الشك والريبة في فكرة الحتمية الصارمة، وهو ما أدى إلى نشوب صراع حاد بين الفلاسفة والعلماء، بين القائلين بالحتمية لضمان التنبؤ، ومن ثم إعطاء الأساس الصلب للعلم، والقائلين بالاحتمالية، وأن لا أحد سيضمن أن الشمس ستشرق غدا. كل هذا أدى إلى ظهور ما اصطلح عليه بـ«مشكلة هيوم» أو مشكلة الاستقراء، والتي ستتناسل عنه مشكلات أخرى، من قبيل مشكلة القانون العلمي، ومشكلة مدى عقلانية العلم؟ فما هي مشكلة هيوم؟ وبأي معنى نفهم أن العلاقة بين السبب والنتيجة ليست ضرورية؟ وما تأثيرات ذلك على صلابة العلم؟
مشكلة هيوم
تكمن أصالة هيوم، في تحليله المشهور للسببية، الذي حاول من خلاله، أن ينزع عنها طابع الضرورة، وأن يبرز أن علاقة السبب بالنتيجة علاقة قائمة على العادة فقط. بمعنى أنه سيخرج السببية من عالم المنطق إلى عالم السيكولوجية. فكيف ذلك؟
في كتابه «تحقيق في الذهن البشري»، وهو من ترجمة الدكتور محمد محجوب، وصدر عن المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى 2008، يبرز هيوم شكوكه في عمليات الذهن، وبالضبط قضية السببية. فيدعونا مثلا، إلى تخيل كيف ستكون نظرة الإنسان الأول، التي يسميها الحالة الآدمية، للشمس وهو يراها لأول مرة تشرق؟ فهل هذا ضمانة بأنها ستشرق مرة ثانية؟ فليس هناك دليل عقلي. بل كل ما هنالك هو أن العملية ستتكرر مرات كثيرة، وجراء الألفة والعادة، سيستنتج أنها ستطلع يوميا. وبالمثل، كيف سأعرف أن النار ستحرق، وأن الماء يمكن أن يخنقني؟ فالأمر بالنسبة لهيوم لا يعود أبدا للضرورة العقلية، بل الأمر يعود للتجربة والعادة. فإذا ما تأملنا جيدا أي سبب، فلن نجد أي مؤشرات تضمن أنه ستتبعه نتيجة معينة. فالرابط بين السبب والنتيجة ليس مضمونا. وظهور سبب معين لا يلزم عنه ضرورة حدوث نتيجة معينة. وحدوث نتيجة معينة لا يعني مباشرة، أن لها علاقة لازمة مع سببها. بعبارة أخرى، يريد هيوم إثبات أن السببية لا تكشف بالعقل وإنما بالتجربة. فهل من دليل أن الشمس ستشرق غدا؟ لا دليل عقليا إلا انتظار التجربة غدا.
إذن، إذا كانت السببية بالنسبة للإنسان الأول مجرد رابط بين حدثين، أي «أ» يتبعها «ب»، ستصبح مع مر التاريخ، بالنسبة للإنسانية، رابطا ضروريا، أي «أ» تعني «ب». فالإنسان سيحول مجرد تتابع الأحداث، إلى علاقة ضرورية على الرغم من أنها ليست أبدا كذلك.
إن تحليل هيوم للسببية يجرنا إلى ريبة أكيدة. فكأن هيوم يقول لنا إننا ملزمون بالقيام بعدد لا محدود من الاستدلالات، لكن من دون سند عقلي. بعبارة أخرى، وكأن هيوم كان يمرح بأن يعري السببية من شرط الضرورة، للقول بأنها مجرد عادة وتكرار، ومن ثم كان يحاول إظهار أن العلم القائم على السببية، هو مجرد معتقد وبأساسات هشة.
إن ما طرحه هيوم كان زلزالا بالنسبة للفيلسوف كانط، فهو يقول عنه أنه أيقظه من سباته الدغمائي، لأن كلام هيوم خطير، ليس لأنه فقط يزعزع أركان العلم ويظهره بمظهر المعتقد، بل لأن كلامه له تبعات دينية على مستوى العلاقة بين الإله والعالم بما هي علاقة سببية، وتبعات أخلاقية. أي على مستوى العلاقة بين المجرم والجريمة مثلا، بما هي، أيضا علاقة سببية. فنزع الضرورة عن السببية يضعنا في ريبة طاحنة.
إن مسألة التعود التي نبه إليها هيوم، تجرنا أيضا إلى موقف برتراند راسل من مشكلة هيوم. فهو يقول: إن الارتباط بين السبب والنتيجة ليس حكرا على الإنسان، بل هو قوي حتى عند الحيوان. فالحصان الذي ظل يساق على طريق معين، يقاوم أي محاولة لقيادته في اتجاه مختلف. بل حتى الدواجن، تتوقع الطعام من يد من تعودت أن يطعمها. لكن راسل يرى أن كل هذه التوقعات الغشيمة للاطراد، معرضة لأن تكون مضللة. وأن الرجل الذي ظل يطعم الدواجن كل يوم على مدى حياتها، هو الذي يذبحها بدلا من إطعامها مستقبلا. إن مثال الدواجن هذا، يريد راسل أن يبرز من خلاله هشاشة الاستقراء والتنبؤ، لكن على الرغم من ذلك، يؤكد أننا يجب أن نؤمن، وإن يكن على مضض، بصدق مبدأ الاستقراء، ولو كفعل أعمى من أفعال الإيمان، حتى يتسنى لنا المضي قدما في طريق العلم.
إن مشكلة هيوم تذكرنا مباشرة بموقف «حجة الإسلام» ، وإن كان في سياق مختلف وبآفاق أخرى مرتبطة بأسئلة كلامية تخص زمانه. فهو أيضا طرح القضية نفسها، حيث كان الغزالي من دعاة الاقتران والتلازم، منكرا أن السببية تتسم بالضرورة، بل هي عادة وتكرار. فهو أيضا، وضع العالم في مجال الاحتمال بدل الحتمية. ومن ثم يمكن تبرير المعجزات، الأمر الذي دفع ابن رشد للرد وبقوة دفاعا عن الضرورة. 
_______
*الشرق الأوسط

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *