*صالح العامري
ابتدأت الحالة صباح هذا اليوم بشيء من الوخز الخفيف في الذراع اليسرى. ثم تطورت إلى تنمّل مؤلم. ثمّ لاحقاً، بدا أنّ الذراع اليسرى، دون غيرها من الأعضاء، حانقة ومتصلبة ومكهربة وأنّ ثمّة برقاً نائماً فيها.
كانت مبايض الإبط اليسرى تعمل عمل الرادار، وتمتصّ إشارات الألم، حتّى لتحسب أنّ مكمن الألم ومجمع العلة هناك، في باطن تلك الإبط. ومع ذلك فلماذا الاكتراث كثيراً، مادام لك ذراع أخرى تعمل، ويدٌ يُمنى تتكفّل بكل شيء، من حمل كأس الجعة، وتناول الأشياء، وحتّى الكتابة. (اقنع) بها يا صاح وتمثّل مع كوب قهوتك ذلك الرجل الذي أصابه المرض في إحدى عينيه وأراد السفر للعلاج في الهند في ستينات القرن العشرين، غير أنّ الرجل في سبيل ذلك كان مضطراً للحصول على موافقة رسمية من الجهة المعنية بإصدار جواز سفر له، وبعد عناء طويل للوصول من القرية إلى العاصمة، جاءه صوت المسؤول الكبير عن إصدار الجوازات مجلجلاً وصادماً، حين قال له بصوت يسيل مكراً :”عينْ وِحدةْ تْكَفِّيكْ يا وَلْدي”، أي لا يوجد داع للسفر ولا إلى جواز السفر واقنع بعينك الوحيدة وعُدْ إلى بيتك سالماً غانماً وانس اكسسواراتك الفائضة عن الحدّ.
********
يمكن القول بأنّ أصل الحكاية لم تبدأ مما قلته آنفاً، بل، والحقّ يقال، ابتدأت منذ أن هاجمني حلم البارحة أو كابوسها. لقد كنتُ مستغرقاً في النوم، بعد سهرة كسولة جداً أمام التلفاز في تغيير القنوات، واللعب مع الطفلة الشقية ذات الأحد عشر شهراً، مُسَوِّفاً قراءة مجموعة قصصية لصديق لي تركتُها إلى جواري فوق الأريكة. وهكذا في غمرة النوم، توضّح أن هنالك وحشاً ما، ربّما على هيئة غوريلا سوداء، أو دُبّ بقوائم ذات صلافة حادّة، أو شبح هائل يركض ورائي، وأنا أهرب منه لاهثاً، كما يحصل عادة في الكوابيس، التي تخنق النائم.
من باب تحرّي الدقة، فليس ذلك ما أخافني وما أدخل الرعب في نفسي؛ ذلك أنني اطمأننتُ (تقريباً) بعد أن صفقتُ باب البيت، كما هدأ روعي (نسبياً) حين وجدتني بمنأى عن الوحش الذي كان يطاردني من خلال ساتر إسمنتيّ، أحدس بأن جدرانه كافية بأن لا تُخترق، وبأنني نجوتُ بنفسي في آخر الفيلم. لكنّ الفصل الآخر، الذي ابتدأ فور دخولي بهو البيت، هو الذي سيفتح صفحة الرعب والمواجهة، عبر كائن سخيف سيتهجم عليّ بضراوة حيوانية.
عندما صفقت باب البيت، هارباً من الوحش الذي في العراء، لم أكن مهتماً بأن أغلق الباب بالمزلاج، بل كان مجرد وصولي للبيت كفيلاً بإزاحة الخطر المحدق بي. ولذلك كان البابُ شبه موارب، وفيه فتحة صغيرة، يمكن للضوء أن ينسرب منها، كما يمكن لقطّ يودّ النجاة بنفسه أن يولّي خارجاً منها، أو في حال أنه رغب في الدخول إلى البيت أن يدلف من خلالها. ومع ذلك، عند وصولي البهو، المفضي إلى الغرفة، وربما بسبب الجلبة التي أحدثتُها، انسلّ قطّ من باب الغرفة، قطّ لا لون له، لا لأنه يشبه الماء، بل لأنني لم أتمكن من تمييز لون معين له. لم يكن يبدو على الإطلاق أنّه غير عاديّ أو أنه ضخمٌ يختلف عن بقية القطط السائبة الأخرى. وبما أنني كنت هارباً من وحش، فليس لديّ أدنى توق لأن أعير قطّاً كهذا أدنى اهتمام. كنتُ فحسب، راغباً في أن يرحل عني، سواءً كان ذبابةً أم قملة أم قطاً. ولذلك ظننتُ أنّه من البديهيّ، بعد انسلاله من الغرفة، أن يتوجّه جهة الباب، الذي قدمت من ناحيته. لكنّ القطّ، كان مصرّاً على التحديق بي ومواجهتي على مبعدة، هو الرابض في منتصف البهو، وأنا المتسمّر قريباً من باب الغرفة. لقد حاولتُ جاهداً أن يفهم أنّ الباب غير مقفل، وأنّ بمقدوره الذهاب من هناك، لكنّني كلما حاولتُ أن أمضي خطوة أو خطوتين لمساعدته، بدأ في تقمّص دور وحش آخر، حيث انبعث منه زئير عال، وأبرز من فكّيه الكبيرين -الناشزين في حجمهما الضخم لقطّ صغير- شبكة أنياب وأسنان معقدة كالتي للتماسيح. كنتُ حينها، كمن يرغب بشدّة، متوسلاً له بصدق ومودة، أن يفهم أن لا مشكلة بيني وبينه، وأنّه لا يوجد مبرر لكلّ هذا الهياج والعدوانية، ولا للزئير والأنياب، غير أنه كان مصرّاً، كما يبدو، على عدم الاقتراب من الباب الذي كنتُ أشير إليه أو أحاول أن أفسح مجالاً له لكي يرحل منه. إنّه يريد أن يقول لي بشراسة، أنّ “بابك المقترح لا يعنيني، وأنني أعرفه جيّداً، لكنّه ليس الباب الذي أحاول أن أتخذ طريقي عبره إلى الخارج”. إنّ نظراته التي يتطاير منها الشرر، وعينيه الياقوتتين المخيفتين، كانتا تحدّقان تجاه الباب الداخليّ للبيت، وليس لجهة باب البيت الخارجي الذي دلفت منه أنا هارباً من الوحش، ولا إلى باب الغرفة التي كان فيها هو منذ قليل.
لقد أسعفني الحلم، رغم الزئير والشكل المرعب، أن أفتح الباب المطلوب لكي يستعدّ الوحش الصغير، لأن ينطلق منه خارج البيت، ربّما لحديقة ما داخل سور البيت، أو إلى طريق تقوده إليه عاداته اللصة أو غرائزه الهررية. لكن كعادة الحلم، كان ثمّة ثلم صغير أو نُدبة حلمية متوترة، يقفز زنبركها دون منطق، تتمثّل في أنّ الباب الذي فتحته لكي يخرج القطّ، انفتح على هيئة رنين مغناطيسي، أعني أنه لم ينفتح بالشكل المعتاد، بل على هيئة ذبذبات، حتّى صار الباب الذي يُفتح الآن، أكثر من باب واحد، وصار له تضاعيف كثيرة في مقام وجوده الثابت. لكنّ المهم، في الأخير، أنّني أطعتُ القطّ في خطة مروره المدبّرة سويّا، وحسبتُ أنني وصلتُ إلى الخلاص. عندها، صحوتُ من الحلم أو الكابوس، دون أن أكون فزعاً جداً أو متعرقاً أو محبطاً، بل مستغرباً، ومتسائلاً عن تلك العدوانية الطافحة التي أظهرها ذلك الوحش الصغير، التي لا معنى لها، رغم حرصي على مساعدته وتخليصه من مأزقه.
********
قبيل منتصف هذه الليلة، التي سيطيش غبارها كبقية الليالي في غبار الزمن وسديمه وهيولاه، وبعد أن هدأت أنفاسي وأنفاس المرأة التي إلى جواري، على السرير، صار لنا الحق في أن نحدّق في سقف الغرفة، وأن نثرثر كالعادة، ربما كان لك جزءً من عادة حميمة تعودناها. وفي اللحظة التي أمالت رأسها إليّ، والتفتتْ فيها نحوي، ربما بدافع أن تقول لي شيئاً أكثر أهمية عن ما سبق أن كنّا نقوله، وبينما كانت الإضاءة تنبثق باهرة من مصباح السقف العلوي، ندّت منها تحديقة مباغتة إلى أعلى ذراعي اليسرى، لكي تطلق بعدها صرخة ذعر، أفزعتني بها للدرجة التي استرجعتُ فيها دون وعي مني كابوس البارحة. لقد كانت تشير إلى آثار عضّ في ذراعي، يبدو أنّ دماءها قد جفّت، لكن أنياباً حيوانية لا شكّ أنّها لامست لحمي. إنّ الحزوز المتروكة، هي ذاتُها لنسخةٍ أو قناعٍ من فم ذلك الحيوان الذي قفز في الحلم ليلة البارحة. صحيح، أنه لا يبدو أنّه غرز أنيابه عميقاً في ذراعي، لكنّه قبل أن يخرج من الباب الأخير، كان قد أودع لوحة فكّيه على جسدي، مصمّماً على أن يدمغني بتلك الزيارة المتطفلة. والآن، كيف أشرح للمرأة الفزعة، كلّ ذلك، ولم أخبرها بعد عن الحلم إيّاه؟، أم هل أخترع لها كذبة ما؟. كما أنّ هذه النَدَبة الدموية، هل هي حقّاً، لذلك القطّ المرعب، أم أنّها حدثت من الوحش السابق عليه قبل دخولي البيت؟. ثمّ، إذا كانت هذه النَدَبة تعني ترك رسالة ما، فما هو مفادها؟. هل ستكون تلك الرسالة، مثلاً، أنّه لا سواتر ولا حواجز ولا موانع أبداً، ولا يوجد من فرق أبداً بين واقع فيزيقيّ، أو مداهمة حلمية؟. ثمّ، في هذه الليلة، يبدو أنّ ما خلّفه الوحش مجرد نَدَبة مدمّاة بحزوز الأضراس والأنياب، فهل ستكون ثمّة زيارة أخرى، في الواقع أو الحلم، أكثر شناعة وضراوة؟. هل أقول لها بصوت بالغ الوهن متسائلاً: يا إلهي هل نحن مخترقون إلى هذا الحد؟. أم أقول لها بصوت بائس متحشرج، أشبه بلغة تقريرية: نحن بالغو الهشاشة، تعضّنا الوحوش حتى في الأحلام.
********
في الغد الذي يقولون عنه أنه سيأتي، والذي أعرف أنه أتى وجاء وانتهى، التقيت في حانة “السحلية الكسول” اثنين من أصدقائي، وأخبرتهما بأمر الكابوس والعضة التي في ذراعي. لكن تبيّن لي من خلال ضحكاتهما المفاجئة وتعليقاتهما الأقرب للسخرية المرحة، أنهما لا يصدقان شيئاً من هذه الفنتازيا. بل، وعندما أردت أن أفتح زر دشداشتي، لكي أريهما أثر العضة في ذراعي، عرفتُ أنهما بإشارة من أصابعهما لا يريدان أن أريهما شيئاً، وغير مكترثين بالمرّة، ثم انطلقا، أمام دهشتي منهما وصدمتي بهما، يتندران عليّ من قبيل أن امرأة ما قد تكون هي التي عضّتني!.
_______
*جريدة عُمان