*فاضل السلطاني
يبدو أن تاريخنا العربي يقف الآن على رأسه، وليس على قدميه، أو يتراوح بينهما في أحسن الأحوال. ولا نحتاج إلى جدلية ماركس، الذي قال مرة عن ديالكتيك هيغل إنه يقف على رأسه، والمطلوب أن نوقفه على قدميه، لنكتشف أن الفئوية الطائفية «أصبحت الآن ظاهرة اجتماعية تضم تحت خيمتها فئات وشرائح توحدها فكرة ما، بينما كانت متصارعة بالأمس على أسس سياسية وطبقية». ولم تكن الفاشية، والهتلرية والصدامية، في جوهرها شيئًا غير ذلك، الارتفاع بفكرة ما، مهما تكن قداسة أو ضحالة هذه الفكرة، فوق الواقع والتاريخ والوطن، ومطالبة الآخرين بالإيمان بها رغم أنوفهم، وبالتالي إلغاؤهم، وإلغاء الواقع والتاريخ والوطن، من أجل الفكرة.
لا أحد ضد الطائفة، التي لا بد من أن تصعد إلى السطح، وتحقق ذاتها يومًا ما مهما استطال قمعها، لكن الخطر الأكبر حين تريد تأكيد ذاتها كطائفة من خلال محاولة تمددها اجتماعيًا وسياسيًا، نافية بذلك بعدها الديني، ربما من دون أن تعي ذلك تمامًا. وبالطبع لا يمكن أن يتولد من ذلك سوى هذه الظاهرة البغيضة، الطائفية.
في كتابه «هرطقات»، يقول جورج طرابيشي إن تحول الفئوية الطائفية إلى ظاهرة اجتماعية يؤدي إلى خلل خطير في تطبيق مبدأ التمثيل الديمقراطي. فإذا كانت الديمقراطية تعني حكومة العدد الأكبر، فإن الأكثرية العددية هي، من المنظور الفئوي الطائفي، أكثرية عمودية لا أفقية، ومجال صراعها مع القوى الأخرى، ليس عبر المؤسسات الدستورية، بل في عمق المجتمع نفسه. الأكثرية هنا ليست أكثرية حزبية أو كتلة سياسية ينعقد عقدها وينفرط داخل البرلمان، بل هي أكثرية طائفية اجتماعية. وهذا يؤدي، بكلمات طرابيشي، إلى تصويت جماعي، ينتصر فيه الناخبون لمرشحهم من دينهم أو طائفتهم ضد المرشح الذي من غير دينهم أو طائفتهم. وفي هذه الحالة، تبتلع السلطة الدولة، وتأكل الطائفة الوطن وهي تسبح باسمه في الجامع والمسجد.
الطائفية لا يمكن أن تحقق ذاتها سوى بإلغاء الوطن بمعناه الواقعي جدًا، والروحي جدا، بجغرافيته المادية والروحية، التي تحققت عبر التاريخ، مازجة الكل في واحد، والواحد في كل. الوطن هو تجاوز للعشيرة والفئة والملة والطائفة، بعد أن يحتويها جميعا ويرتفع بها، والطائفية معادلة لا تقبل القسمة سوى على واحد. وهي معادلة لا يمكن أن تستمر طويلاً لأنها تعني الانتحار، لكنها قد تكلف الكثير من الألم والعذاب، كما حصل في فترة الفاشية.
سينتهي الإرهاب يومًا ما، طال الزمن أو قصر، فهو عدو منظور، وعضو غريب عن الجسد العربي الذي سيرفضه، ورفضه طوال تاريخه، لكن الخطر الأكبر هو الفئوية الطائفية التي يراد لها أن تصبح طبيعة ثانية لنا، تنفي طبيعتنا الأولى التي ورثناها من أجدادنا العظام الذين نجهل انتماءاتهم الطائفية، لكننا نعرف أنهم كانوا مبتلين بحب الوطن، كل الوطن، إلى درجة الوجع، وبعاطفة أقرب إلى الحلول، هي عاطفة المواطنة.
________
*الشرق الأوسط