*وليد بن أحمد
خاص ( ثقافات )
لا زلتُ جميلة، ترددت في ذهني و أنا أغسل يديّ من دمه. ليس دمه ذلك الأحمر الذي ينزف من جرح بسيط عندما تعشق السكّين إصبعك عوض البصل. كان دمه بنفسجيا داكنا يميل إلى السّواد تفوح منه رائحة عطنة. كيف يمكن لسائل يحمل الحياة في طياته أن يزكم الأنوف؟ لا أدري لما لم يقبّلني. لما لم يلمس نهديّ. أتراه أدرك أن لي نهدا واحدا؟ أتراه عرف كنه شعري المستعار؟ أنا لا زلت جميلة، أعرف جيدا أنني لا زلت فاتنة رغم أني لم أنظر إلى نفسي في المرآة منذ أسبوعين. أسبوعان قاسيان مرّا منذ غادرت المشفى. لم أقو على النظر في المرآة لمفردي. مزيج من الرهبة والحنق المكبوت عصفا بكياني ومنعاني التطلع إلى جمالي الأخاذ. لو نجت أمي من قدرها لكانت تقف اليوم إلى جانبي تكشف الستار عن المرآة المشؤومة. وحده حبيبي يدرك سر جمالي، فقد قرأت للمرة الثالثة عشر بطاقته الموضوعة بلباقة فوق باقة “التوليب” الساحرة التي أهدانيها و أنا بين يدي قدري على سرير الجراحة. ذبلت الوردات لكن وردته الجميلة لن تذبل رغم كل شئ. لقد خط لي هذا على البطاقة. أقضَّت”رغم كل شئ” مضجعي طيلة أسبوعين. إلام يرمي حبيبي؟
لم أنتظر خروجي من المشفى أو إشباع رغبتي المنحرفة بالتطلع إلى شكلي الجديد بقدر انتظاري ملاقاة حبيبي و رؤية طلعتي في عينيه. كم أشتاق إلى عينيه. كم أتحرق لتفسير “رغم كل شئ”. منذ تعرفت إلى عدوّي الجديد، رفضت أن يراني حبيبي مكسورة القلاع لكنه لم ينهزم. أسرّ لي أنه سينتظرني إلى آخر العمر. رسائله الحنونة أمرتني أياما و ترجّتني أياما بالمقاومة. كم حاول إقناعي بكفاح المحتل وإجلاءه عن ثغر جسدي المنهك والمغتصب كما قاوم أجدادي المستعمر الغاشم و أطردوه من أوطاننا الطاهرة. لم أكن أملك مدى شجاعته و سعة إطلاعه. كنت مستعدة للاستسلام والتعايش مع عدوي حتى يفني أحدنا الآخر. كثيرا ما اعترفت له بمرارة أن جسدي ليس أرض جهاد و أن صدري لا يمكن أن يتجاوز شرفه طهر القدس البتول بأية حال. كم يعشق حبيبي ضفائري القاتمة كليلة شتاء طويلة. قاطعت حصص العلاج الكيميائي من أجله. لهوت مع الموت كثيرا، لم يكن لنصبح أصدقاء لكنني عرفته عن قرب. انخفضت معدلاتي الحيوية و يأس الجميع من عنادي. لم يبقني حية سوى أملي . كنت أتتحسس فروة رأسي بأمل مزارع حرث و زرع و بقي ينتظر زخات الحياة. ذات يوم و أنا أنازع الفناء كتب لي حبيبي “عيشي من أجلي”. من أجله قررت الخضوع للجراحة. من أجله فقط سمحت للحلفاء بالإنزال لطرد العدو.
لهوت مع البواب، شغلته حتى لا يحفظ ما بدا شاذا من جسدي. لم أفتأ أدق بكعبي العالي على الأرض و أنا أحاول تشتيت ذهنه. بادرني و أنا أهم بدخول البناية “من انت سيدتي؟” رمقت اسمه محفورا على بطاقة تتدلى علي صدره فأجبته “ألم تعد تعرفني يا عم ذاكر؟ »
“اوه، اعذريني يا سيدتي أنت تعرفينني؟ لكن من أنت حقا؟ »
“أنا زوجة الضابط». حدجني بنظرة بلهاء ثم سألني “أيهم يا سيدتي فالعمارة برمتها يقطنها الأطباء؟ »
“أنت لم تتعرفني لأنني غبت طويلا ».
“زوجة من يا سيدتي؟ »
“من عاد من الجبهة مظفرا هذه الأيام؟ »
“لا تقولي.. انت أخت البروفيسور صامد إذن؟ هل علمت أنه أنقذ سيدة من براثن الموت؟»
“أعرف ذلك هو محارب عنيد. ثم انتظر فأنا زوجته»
“مستحيل. أنا اعرف زوجته. لقد أتت منذ يومين”
لا ادري كيف ذكرني الحارس بسطوة المال فاجتذبت من حقيبتي ورقة بخمسين دينارا مطوية بعناية و ناولتها إياه “أرجوك أن تحضر لي قنينة عصير باردة و احتفظ بالباقي. ليس عليك أن تسرع. لديك كل الوقت»، ثم غمزته في جذل “سنحتفل بنجاح الضابط في العملية. ألم ينقذ احدهم من الموت؟ ألا يستحق هذا بعض المرح؟” ضرب ذاكر كفا بكف، حوقل ثم تنحى جانبا و انطلق يحضر مشترياتي.
صعدت إلى البناية أتفرس صناديق البريد إلى أن عثرت علي الدكتور “صامد العماري” أستاذ بمستشفيات باريس سابقا اختصاص.. لم أقو علي قراءة الاختصاص فلي معه ذكريات مميتة. نعم لقد ذكر لي انه سيحارب في باريس و أنا انتظر موعد معركتي. أستاذ و دكتور في سلاح الجو؟ فليكن. ضابط برتبة دكتور فحبيبي لامع بحق. انه يقطن بالطابق الثالث. تركت المصعد و ارتقيت السلالم عنوة. شيء ما حدثني أن أصل لاهثة، مفترة الثغر، حمراء الوجنتين، شهية. لا بد أن لديه مرآة كبيرة. سويت فستاني الأسود الطويل ليلتصق بجسدي اكثر و اكثر. هممت بدق الجرس لكنني تذكرت هذيان الحارس. كيف يكون لحبيبي زوجة؟ كيف تجرأ ذاكر على ذلك؟ حتما لا يستحق اسمه. ثم كيف يكشف حبيبي عن أسرار الجبهة. كيف عرف الحارس أن حبيبي انقذ امرأة من براثن الموت؟
تكاثفت الأسئلة في ذهني في غرابة. اختلط علي الأمر و أضعت أولوياتي. أنا قدمت لاكتشف جمالي في عيني صامد أم تراني جئت أساله عن باقة التوليب و عن أمله في نجاتي رغم كل شيء، أم أني سأسأله عن ألقابه الغريبة فأنى لضابط أن يكون أستاذا و دكتورا، أم لعلي سأحقق معه حول هذه الزوجة المزعومة؟ لم المس الجرس و إنما طرقت الباب في ضربات حانية. طرقت مرتين أو ثلاث ثم فتح الباب و اطل علي حبيبي صامد نحيفا في ملابس نوم يحمل منشفة على كتفيه و قد خلت رأسه سوى من شعيرات مبعثرة هنا و هناك. كان نصف وجهه مختبئا تحت نظارات سميكة. لا يمكن أن أخطئ حبيبي ثم أنا أتيت دون موعد لمفاجئته. سيتغير عندما يضع نياشينه و تلمع نجومه الذهبية علي كتفيه العريضتين. مهلا، ليست كتفاه عريضتين كما ينبغي. ثم كيف يضع ضابط مغوار نظارات سميكة كقارورة دواء؟ عيناه بدت لي غريبة و هو يحدق بي في بلاهة. كنت انتظر شوقا و لهفة في عينيه. مد لي أصابع طويلة، شاحبة و مبللة. لم أشأ مصافحته و ارتميت في أحضانه لينهال علي بالقبل. اذكر جيدا انه منحني وجنتين غائرتين. لعلها المفاجأة. ” اعذريني. لم أتوقع زيارتك باكرا. لم يمر سوى أسبوعان على..”
لم اصغ إليه و أنا اكتشف شقة ضابط. هناك علي الأريكة ميدعة بيضاء و على الطاولة الكبيرة الوحيدة التي ملأت نصف الفضاء، كانت هناك حقيبة ملقاة بإهمال قد أطلت منها سماعة، محقن كبير و أقراص دواء. كيف ينقذ ضابط حياة سيدة بأقراص و محقن؟ أين البنادق، أين الخراطيش، أين البدلة المثقلة نجوما الكفيلة بإمالة رقاب العذارى؟
انتظرت طويلا حتي رفع صامد عينيه نحوي. لم يتطلع إلى عيني مباشرة و إنما امطرني بوابل من الأسئلة كما يطلق المحارب المغوار رصاصه نحو العدو الغاشم
“هل انت افضل الآن؟
“بوجودك حبيبي”، أردت أن أجيب.
“انت بخير؟ تبدين بصحة جيدة »
واصلت في سري “بفضل تشجيعك و حبك يا أملي ».
“هل تأكلين جيدا؟ هل تنامين بعمق؟ »
“شفتاي جميلتان؟ اه شكرا أخجلتني. اوه أنا لا أنام لأنني بانتظارك ».
“ماذا تشربين؟ أظن أن شايا خفيفا يناسبك. »
بدا حبيبي مضحكا و محببا وهو يطرح أسئلة غبية جديرة بطبيب. جلت في أرجاء الشقة و هو ينهمك في إعداد الشاي. مزيد من علب الدواء هنا و هناك و محاقن كبيرة في كل مكان. لا بد أن الوضع في الجبهة حرج و الحرب طاحنة. على الرفوف كتب كبيرة كلها تحمل أثداءا في عناوينها. يا لحبيبي الشبق. سيريني النجوم، و القمر إن لزم الأمر. هناك في الركن زوجان من الكعب العالي. لم افهم. صورة لحسناء بالأبيض و الأسود. لم افهم بعد. على مقبض باب الغرفة المقابلة تتدلى حمالة نهود حمراء فاتنة. لم افهم لكنني جريت نحو المطبخ و صرخت
“حمالة الصدر الحمراء ليست مقاسي يا صامد. ثم انظر إلى نهدي ألا ترى شيئا مختلفا؟”
اسقط صامد فنجان الشاي الفارغ مدهشا. لم ينظر إلى نهدي. الم يشده نتوؤهما غير المتناظر؟ الم يلاحظ شيئا. لم ينظر إلى شعري. لم يقبل شفتاي. لعلها الحرب لم تترك ويلاتها له شغفا بالحياة. و أنا التي ولدت من جديد. من يرعاني؟
“اعذريني. لم أجد علبة الشاي. حتما ستجدها” أمل” عندما تعود. لن تتأخر فالمستشفى قريب من هنا. أطلت النظر إلى منديل طبخ زهري معلق و قلت متسائلة “أختك ذوقها جميل. تحب الأحمر و الزهري. لماذا تحتفظ بكتب مليئة أثداء؟ ثم لماذا سأبقى جميلة رغم كل شيء؟ »
لم تحركني عبارة “زوجتي تعشق الأحمر” و لم تثرني مسألة احتياجه كتبا حول النهود في عمله. غرزت السكين الكبير في رقبته و لوثت يديّ و فستاني الأسود بدمه الداكن و هو ما زال يتحدث عن شفقته بي يوم انقذني من خطر نهدي البائس و أمله أن أبقى جميلة رغم كل شيء. كان ينازع و هو يخبرني بان حياتي الباقية معركة ضارية فهو طبيب يعرف أن عدوي لا يزال يتربص بي. نعم لا زلت فاتنة و سأقاوم بمفردي لأن حبيبي ضابط يقاوم العدو بمحقن.أنا لست طاحونة هواء.
في سيارة الأجرة التي تقلني إلى مخفر الشرطة شنفت أذاني أغنية مصرية حانية يقول مطلعها في حزن «وسط تعبك وسط ألمك.. لسة عايشة حلمك… شوفي ثاني في المرايا.. شوفي نفسك أحلى أنثى. ما إنت لسة جميلة، لسة عايشة ولسة حاسة.. كل حاجة حلوة فيكي.. ولا فيكي حاجة ناقصة ».
_______
*قاص تونسي