قطار الغرباء


أسماء جزار


خاص ( ثقافات )


أطلق قطار الليل صفَّارته متوجهاً إلى الشمال، يتمطَّى بسرعة البرق، مجتراً أحزان ركابه وآهاتهم، ثم يدوسها بعجلاته الفولاذية إلى غير رجعة، تزداد ضراوة الصقيع وصفير الريح الأهوج مع الظلام الدامس، إنارة القطار كانت خافتة، فقط بعض الأضواء الخاطفة تأتي وتروح خلسةً لتري زوايا القطار التي يرتادها أناسٌ متعبون من وحشية الحرب، توحي تفاصيل وجوههم الشاحبة وأعينهم الباهتة بأن رغبتهم في السفر لم تكن إلا من أجل النسيان ولا شيء غير النسيان.
كلٌّ أخذ مكانه وتنفس الصعداء، ذاك العجوز الطاعن في الانتصارات والانكسارات وضع عصاه جانباً ونزع نظارته التي يكسوها فتات الغبار وخلد إلى النوم، مغادراً نحو عالم الأحلام، تصاعد شخيره مما أزعج الشاعر الجالس بجانبه الذي كان يقلب أوراقه المصفرة البالية بارتباك ويستحضر أطيافاً من نور وثلج ودفء، ما فتئت الحرب أن مزقتها وجعلتها هشيماً تذروه الرياح، يبلل الدمع لحيته ويسارع إلى وأدها في حقيبته الجلدية، يطرق برأسه لوهلة ويغرق في التفكير، جراء ضجيج الأفكار المصاحب لصفير القطار، يخرج من جيب معطفه قلماً ودفتراً صغيراً، يحاول تدوين ما يدور في فلك روحه المشحون، باءت محاولاته بالفشل الذريع، فما من خشب يوقد لهيب الكلمات، وما من طريق أمامه سوى الاستسلام لأحلام يقظته البائسة.
في زاوية أخرى من القطار الغارق في ظلماته، امرأةٌ تتوسط عقدها الرابع، تقلب ألبوم الصور، تحرقها الغصة وتغلبها دموع الأسى على فقدانها فلذة كبدها وبهجتها الوحيدة التي خرجت بها من نفق الحياة المظلم، كان ذاك الفقد الكبير متزامناً وعيد الأم، فبينما كان الشاب العشريني يسارع الوقت ليصل إلى أمه بتلك الهدية التي ادخر ثمنها طيلة عام، كان الموت أسرع بمباغتة وحوش الظلام له وإسكات صوته وحشرجات أنفاسه للأبد، فحملت الأم في حقيبة سفرها تعذبات مرارة الفراق ودمعاً لا يبارح وجنتيها. يقابلها فتي جميل، مبتور الذراع، على ركبتيه تتربع كمنجةٌ، يتحرق بالصمت ويلقي جام غضبه ولعناته على من كانوا السبب في إسكات عزف كمنجته وحرمانه الأبدي من الموسيقى، كان أهون عليه أن يموت ألف ميتة ولا أن يقتل نصف القتل ويعيش ما تبقى من أيامه بذراع واحدة تجعله في مصاف العاجزين وذوي الرغبات والأحلام المنقوصة. فهو الحالم بالجمال والفرح، العاشق للحياة رغم شراستها، المحارب الجسور الذي لا يلقي سلاحه إلا بموته الأخير، الذي لا يرضى إلا باكتمال الأشياء دون زيف أو نقصان.
يمضي القطار بصفيره المختلط بوقع حبات البرد وهطل المطر الصاخب، يشتعل قبس من دفء بين الركاب، تتنامى بينهم جذور الألفة يبتسمون تارةً بخجل ثم يتبادلون كلاماً متقطعاً، كلٌّ يفصح عن إرث من الخراب والفقدان المتروك في أرض كانت تسمى الوطن وما لبثت أن صارت تسمى المأتم، المنفى، وقبراً للأحلام والأماني العجاف، يخترق القطار جبالاً ووهاداً، مدناً وقرى، والجميع يرسم في مخيلته شكل البلاد التي ستقودهم إليها دروب القطار الحلزونية، يضعون سقفاً من الأوصاف لهذه البلاد لكن في النهاية يكتفون بأن تكون بلاداً تنعم بالسلام ولا تعرف القتل والحروب.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *