الترجمة بوصفها عملاً إبداعياً.. رواية مقبرة براغ لأمبرتو إيكو أنموذجا..



خضير اللامي

خاص ( ثقافات )
انتقل إلى العالم الآخر، المفكر والفيلسوف السيميائي أمبرتو إيكو الذي غزا العالم الثقافي والفكري بفلسفته السيميائية والتأولية التي ورثها عن أسلافه اللغويين حتى أمسى لا أحد ينافسه في هذه المجال في القرن الحادي والعشرين..

يتكوَّن اسم إيكو من الحروف الأولى للعبارة اللاتينية ex coelis oblatus، التي تعني هِبة السماء، وحصل على دكتوراه الفلسفة حول توما الأكويني بعد أْن تحول من ممارسة المحاماة إلى دراسة فلسفة القرون الوسطى والادب في العام 1954، في جامعة توريندو. وكان حداً فاصلاً بينه وبين الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، بعد أن ْعانى من أزمة إيمان، وقد أثرى المكتبة العالمية وبجميع لغات العالم، بكتبه الروائية والدراسات النقدية والفكرية والفلسفية، واقتحم كلَّ ما هو مُغلق من فكر وفلسفة، حتى تحول إلى مفكر لا أحد يضاهيه في عصره.. وأهم أعماله الروائية:

اسم الوردة، بندول فيكو، جزيرة اليوم السابق، بادالينو، مقبرة براغ، وأخيراً، العدد صفر التي صدرت في نهاية العام المنصرم، التي كتبت عنها عرضاً نشر في الصحف وبعض المواقع . 

وبهذه المناسبة أنشر مقالي الموسوم “الترجمة بوصفها عملاً إبداعيا مقبرة براغ لأمبرتو إيكو أنموذجاً”.

دراساته النقدية:
الدراسات في الحكاية، حدود التأويل، زمن القارئ، النص المفتوح، والقارئ في الحكاية. 

الترجمة بوصفها عملاً إبداعياً.. رواية مقبرة براغ لأمبرتو إيكو أنموذجا..


في هذه الورقة أريد أن أقدم شهادة شخصية عن تجربتي في حقل الترجمة مركزاً على الجانب الإبداعي فيها، تاركاً ما يتعلق باختصاصاته الأخرى إلى وقت آخر.. وسأركز على عمل روائي واحد أعده من أصعب الأعمال التي واجهتني في مجال تجربتي في الترجمة، ألا وهو رواية “مقبرة براغ”، ومن يقرأ نصها العربي والإنجليزي سيرى الجهد الواضح المبذول في هذه الرواية.. 

بداية، أقول إن ثمة نسيجاً مشتركاً بين المؤلف والمترجم، يتيح للأخير أن يجترح نصه الخاص أو تأويله، من النص الآخر بوصفه نصاً مفتوحاً أو بمعنى آخر نصاً حمال أوجه استناداً على مفهوم النظرية النقدية الحديثة، وصولاً إلى الارتقاء بالنص المنقول إليه. شريطة أن يحافظ على روح النص، وبما يتماهى مع اللغة والبنية الجمالية المنقول إليها، وهذا يعني ضمناً، ما يسمى بالخيانة في الترجمة. 

صحيح، أن لكل لغة خصائصها، ومكوناتها وانحدارها التاريخي، ونموها الحضاري والاجتماعي فضلاً عن الثقافي، وقد يواجه المترجم صعوبة في التعامل معها ليماهي بينها وبين لغته الأم وخصائصها كما حدث معي في رواية “مقبرة براغ” التي سنتحدث عنها بعد قليل.

وصحيح، أن لكل مترجم رأيه الخاص وفلسفته في العمل الترجمي، بخاصة في الأعمال الإبداعية الحديثة، ولكن لا أتفق تماماً جملة وتفصيلاً مع من يتخذ من الترجمة الحَرْفية مساراً له، ذلك أنها، أي الترجمة الحَرْفية تنقل لنا نصاً مهلهلاً، وتقتل الإبداع فيه، فضلاً عن أنها في النتيجة، تعطينا نصاً لا حياة فيه.

والترجمة فضلاً عن ذلك كله، هي عملية تلاقح بين لغتين قد تكونان متكافئتين في تقدمهما الثقافي والحضاري والتكنولوجي، مثل لغات أوروبا الغربية كاللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية على سبيل المثال لا الحصر، وقد لا تكون كذلك بينها وبين إحدى اللغات الشرقية مثل اللغة العربية، وصولاً إلى بناء لبنات لمعرفة الآخر من خلال ترجمة ثقافته أو أدبه إلى لغتنا أو ثقافتنا. وتعد الترجمة هنا، الوجه الآخر ولا بد من معرفته لغة وسلوكاً وتاريخاً وحضارة واختلافاً وتشابهاً. وتعلقاً بالذات “المترجم” هي اكتشاف لإبداعات ذلك الوجه الآخر أو تلك الأمة، بخاصة إذا كانت من تلك الأمم التي قطعت شوطاً كبيراً في نهوضها الحضاري وتقدمها الاجتماعي وتقنياتها العلمية والتكنولوجية وانعكاسات ذلك على العمل الإبداعي.
 
وعلى الذات “المترجم” التعامل مع النص على وفق هذه الخصائص وعلى وفق خصائص أمته ليعطينا نصاً إبداعياً لا يبتعد كثيراً عن النص الأصلي أحياناً يحوم حوله وأحياناً يقترب منه ليجترح نصه الخاص بيد أن الابتعاد كلياً عن النص هو عملية مسخ تماماً للنص الأصلي.

يقول أمبرتو إيكو في كتابه الجديد المترجم إلى العربية المعنون “أن نقول الشيء نفسه تقريباً”، وهذا العنوان يختزل لنا مفهوم الترجمة الإبداعية. يقول إيكو في كتابه هذا: يتحتم على المترجم أن يتفاوض مع شبح مؤلف هو في أغلب الأحيان غير موجود، ومع الحضور المهيمن للنص المصدر (الأصل)، ومع الصورة التي لا تزال غير محددة للقارئ الذي يترجم له، وأحياناً، عليه، هذا التفاوض؛ المتعدد الأوجه والأطراف، هو الذي يقود، في النهاية، إلى تحديد خيارات المترجم من ناحية التأويل والحذف والإضافة والتعديل ونقل ظلال الكلمات، وحرارة العبارات في الأصل، فعملية الترجمة محمّلة بخصوصيات دلالية وجمالية تجعل منها، لا مجرد نقل، بل «محاولة إبداعية» أخرى موازية للنص الأصل، على اعتبار أن الترجمة، وكما يقول إيكو: «لا تعني، فقط، مروراً بين لغتين، بل بين ثقافتين، أو موسوعتين، وعلى المترجم أن لا يأخذ في الاعتبار فقط القواعد اللغوية البحتة، بل وأيضاً عناصر ثقافية، بالمعنى الأوسع للعبارة”.

وثمة جدل أو وجهات نظر فيما يزعمه المترجم الأدبي أن الترجمة الأدبية هي عملية إبداعية لا تقل أهمية عن العمل الإبداعي في مجال الرواية والقصة والشعر والمسرح وحتى النقد، إذ إن المترجم حين يشرع في عملية الترجمة – وهنا أتحدث عن تجربتي المتواضعة فيها – يعيش حالة من التجلي كما المبدع وهو ينغمر مع النص المنقول منه إلى النص المنقول اليه والذي يتعامل معه ومع لغته السردية وأسلوبه وسيمياء عباراته، وكيف يوازن بين اسلوبه وأسلوب النص الأصلي لغة وتقنية وسمات بنيوية وأسلوبية، وهنا هي الإشكالية.

إذاً، الترجمة فضلاً عن أنها عمل إبداعي فهي حضارة تبطن في داخلها علماً، وحقل نظريات ومعارف ووعياً وتاريخاً، وعلى المترجم القدير أن يكتشف هذا الأثر من خلال استثمار الشحنات الدلالية والشفرات والإيحاءات الأخرى مثل ذائقته الجمالية والحسية واللغوية وتسلحه بمعرفة إبداعية تؤهله للتعامل مع الآخر.
وثمة سؤال يطرح نفسه هنا أو قد طرحه بعض المترجمين ونقاد الترجمة: هل الترجمة فضلاً عن إنها إبداع هي موهبة؟ لا أعرف جواباً لهذا لكن كل ما أعرفه أنني حين انتهيت من ترجمة مقبرة براغ لم أصدق نفسي أبداً أن هذا النص العربي لرواية “مقبرة براغ” هو النص الذي ترجمت إياه؟

ومن هنا، ومن هذا كله، تعاملت مع نص رواية “مقبرة براغ” لأمبرتو إيكو، إذ إنه، أي نص أمبرتو إيكو مفعم بالعبارات السيميائية والتأويلية والإيحائية وما يقابلها من تلك السمات في لغتنا العربية، فضلاً عن تعقيدات السرد وتقنيته العالية جداً، ذلك لأن الرواية تتناول أحداثاً جساماً حدثت في أوروبا معقدة ومتشابكة وأحياناً ضبابية بسيمائيتها وأسلوبها، فضلاً عن شخصياتها التي قلتَ عنها خرافية خاصة أن بطل الرواية سيمونيني يعاني من ازدواج في الشخصية، فأحياناً لا تعرف أنت كمترجم أو كمتلقٍّ أو حتى كناقد إن كان هو الشخصية الحقيقية أم الشخصية الأخرى أو شخصية مزدوجة تلك التي يعاني منها. وهنا، تكمن الصعوبة في التعامل مع عمل أمبرتو إيكو.

ولا أكتمكم أن إقدامي على مثل هذا العمل العظيم يُعد مغامرة حقيقية أمام قامة كاتب عظيم مثل أمبرتو إيكو، لكنني شعرت بعد أن قرأت نصها الإنجليزي أن ثمة نداءً داخلياً يدعوني إلى الانسجام مع مثل هذا العمل الشائك وإنجازه. وقبل المباشرة بالترجمة، أعدت قراءة بعض أعمال إيكو لأكون تماماً في أجوائها كما ساحر يحرق بخوره قبل عمل السحر، وتمضي الأيام والليالي والأسابيع والأشهر ثم تجاوزت السنة ونيفاً. وها هي الرواية بنصها العربي ترى النور. 

ومما ساعدني أكثر، أنني شعرت أن القارئ العربي وبالذات السارد بحاجة إلى مثل هذا الجنس من السرد الروائي.. ومع أنني لست مختصاً بسيميائية أمبرتو إيكو، بيد أنني أزعم أن أقول أن لدي اهتمامات متواضعة في هذا الشأن، فضلاً عن قراءاتي لإيكو أمبرتو، مما مكنني التعامل مع نص مقبرة براغ، واجتراح نصها العربي، على وفق مقاربات النص الإنجليزي، وآمل أن أكون قد وفقت في ذلك.. 

وحين انتهيت من ترجمة الرواية، تركتها جانباً لبعض الوقت، عدت إلى قراءتها مرة أخرى ورأيت أن ثمة غموضاً يكتنفها لا لخلل في ترجمتها أو سرد أحداثها، ولكن لبنية نصها المعقد وسيمائيته في سرد أحداث جسام وقعت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ولأن كاتبها أمبرتو إيكو سيميائي بامتياز فضلاً عن أنه ذو عقل مركب كما رأيت أن محاولة تبسيط ما يمكن تبسيطه هو مساس أو إحداث خلل في العمل الروائي هذا وتسطيح أحداثه وأسلوبه وتقنيته، وفضلت ترك العمل كما هو ورأيت أن أكتب مقدمة له لتفكيك بعض سمات هذا العمل الروائي العظيم كما لو أنه نافذة يتطلع من خلالها القارئ العربي إلى عالم أمبرتو إيكو الروائي. ومبرر كتابة هذه المقدمة، وكما جاء في المقطع أدناه من المقدمة:

إذ من الصفحات الأولى يدعونا إيكو إلى تعضيده تأويلياً في فهم ما يكتبه السارد الآخر في الرواية: “لا يعرف السارد نفسه حتى هذه اللحظة، من هو هذا الكاتب الغامض، ويقترح أن يكتشف (جنباً إلى جنب مع القارئ) وكلانا ينظر ويتابع بفضول ماذا يدوِّن هذا السارد على صفحات هذا الورق. “إذاً، من خلال ندائه هذا، هناك صوت داخلي آخر كتب هذا العمل الروائي غير صوت إيكو؟” وعلينا هنا في هذا العمل الروائي لإيكو التعامل “التعاضد” مع هذا الصوت الداخلي “النداء”، للوصول إلى رؤوس خيوط هذه الرواية لفك تشابكها. الروائي إيكو بوصفه سارداً آخر، من جانبه حاول قدر إمكانه أن يكتب إضاءة مقتضبة)، وهذا نادراً ما يحدث في العمل الروائي). عن تداخل الأحداث وتشابكها وغموضها وزمنها الاسترجاعي flash back، وحبكتها المعقدة وأسلوبها الملتوي، فضلاً عن شخصيات الرواية، بخاصة بطلها الرئيس سيموني سيمونيني الشحصية المتخيلة الوحيد الذي يعاني من انفصام الشخصية، ومزدوجه آبي دالا بيكولا أيضاً، وكلاهما لا يعرف أحدهما الآخر، إنهما شخصية واحدة في جسد واحد.

إن التعامل مع هذه الرواية، رواية “مقبرة براغ” لمؤلفها الإيطالي أمبرتو إيكو حفيد دانتي، ذو العقل المركب، والأسلوب المعقد، وفيلسوف، وسيميائي، وناقد أدبي، ومؤرخ، وأكاديمي، وموسوعي معرفي بامتياز، هو تعامل مع عمل إبداعي لرواية تنطوي على أحداث جسام متداخلة حدثت في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين، تحتاج إلى قارئ نوعي متمرس. والرواية قد تبدو سلسة ومرنة ومفهومة، وقد ينطلي هذا على القارئ العادي، لكن القارئ المحترف النموذجي كما يقول إيكو قادر على التعامل مع أسلوب الرواية، أما القارئ الهاوي، فإنه يسهم في انهيار هيكلية الرواية بأكملها نظراً لعدم تمكنه من استيعاب اللغة الخيالية المحبوكة بدقة متناهية.

يقودنا أمبرتو إيكو في سفر روائي لا يُنسى عبر أحداث روايته “مقبرة براغ” التي اشتق اسمها من مقبرة يهودية قديمة في براغ، كان قادة حاخامات يهود الأمم في جميع أنحاء العالم يلتقون فيها كل مئة سنة تقريباً لوضع خطط التآمر للسيطرة على مقدرات البشرية وحرفها عن مسارها الإنساني الأصيل،، ومنهم من يقول إن هذه البروتوكولات هي محض كذبة فباركها الروس لاضطهاد اليهود. أطلقوا عليها “بروتوكولات حكماء صهيون”. وتمكن سيموني سيمونيني بطل الرواية من صنع مقبرة براغ إيّاه وإعادة صياغتها وبما تتناسب مع المفاهيم والأفكار والتحولات الدراماتيكة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. 

هنا، يحاول إيكو، تفكيك مفاهيم وآليات الكراهية بين السلالات والأمم والأقوام عبر التاريخ وراهنه وبخاصة ما كان تمور به نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين من أحداث جسام ودور اليهود الشيطاني ضد المسيحية والديانات الأخرى كما السلالات الأخرى وتدنيس مقدساتها.

وما قد يلاحظة المتلقي، من ما يشبه الإساءة أو الإساءة ذاتها، لشخص المسيح وصليبه والديانات الأخرى، إنما هو يأتي من موقف يهودي شيطاني تاريخي من المسيح أو المسيحية ليس إلا، في محاولة منهم لتهويد المسيحية، أراد الروائي هنا، أن يُظهر كراهية اليهود ضد البشرية عبر التاريخ وإظهار الجرائم التي يرتكبها شياطنة اليهود هي الأكثر بشاعة وخسة في الخداع.. وجسّد هذا كله في موقف البطل الرئيس المتخيل سيموني سيمونيني إزاء كراهيته وحقده إزاء الأعمال الشنيعة والمخططات الجهنمية والتغلغل بين أوساط المجتمعات العالمية والتآمر عليها وبين المنظمات التجسسية والماسونية التي يقوم بها اليهود عبر التاريخ..

وهكذا فإن الترجمة ليست مجرد كلمة تنتقل من لغة إلى أخرى، عبر فرد أو جماعة، بل هي، بطبيعتها، طاقة حية ذات قدرة هائلة على تحويل المجتمع بسرعة إذا عرف كيف يستخدمها. الترجمة ليست كلمة منقولة بل هي فعل حضاري، دينامية قوى متعددة الوسائل تتحرك باستمرار باتجاه موقع الفعل والتغيير، وهي من حيث المبدأ تعبير مباشر عن القوى الدينامية في مجتمع معاصر بات، لشدة شموليته، يتبدل أمام أعيننا كل يوم، وما المذياع والتلفزيون والكمبيوتر والصحيفة والكتاب والآلة وغيرها سوى الآلات اليومية الحديثة التي تترجم بجميع لغات العالم الحية كل أشكال الإبداع الثقافي المعاصر.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *