مهند النابلسي
خاص ( ثقافات )
لا يمكن لأحد من عاشقي السينما أن ينسى المشهد السينمائي الخالد في سينما التشويق، والذي يتمثل بمقتل “جانيت لي” في الحمام، وفي تلك الليلة الماطرة، فكيف يتم قتل امرأة نزيلة عابرة لفندق؟ وكيف تطعن عدة مرات بسادية مرعبة وبدون أن نرى عملية الطعن مباشرة؟ وبلا عنف ومؤثرات ودماء وبلا عري فاضح استفزازي… ربما تكون هذه اللقطة هي من بعض أهم وأروع لقطات التشويق في تاريخ السينما، ويصف هيتشكوك في الفيلم الحديث الذي يحمل اسمه (2012) طريقة تصوير المشهد بأنه تم بأسلوب الإيحاء المجازي البالغ التعبير، كما نراه يرصد تأثيره الكاسح على الجمهور أثناء عرضه الأول وخلف الكواليس بإيماءات حركية عصبية متلاحقة تعبر عن توالي عملية الطعن، مستمتعاً برصده لصراخ وتأوهات الجمهور المحبوس الأنفاس…
كون هوبكنز وميرين ثنائياً طريفاً حميمياً بكيمياء خاصة وإخلاص نادر حيت كدنا نعتقد أن زوجته هي التي أخرجت الفيلم أو ساهمت بوضع بصماتها اللافتة على معظم مشاهده، وهذه مبالغة غير منطقية وقع بها الفيلم، فما زلنا نتمسك بإخلاصنا وبتأملنا للحرفية المفرطة لأحد اهم مخرجي التشويق في القرن العشرين، والطريف أن هيتشكوك نفسه يستخدم أسلوب “التلصلص” الذي برع فيه في معظم أفلامه، فنراه يتلصص على زوجته وصديقها، وكذلك على بطلة الفيلم الحسناء من خلال فتحة صغيرة في جدار مكتبه (تقمصت الجميلة سكارليت جوهانسون دور جانيت لي ببراعة فائقة)، وكأنه يتماهى مع بطل القصة القاتل “انطوني بيركنز”، الذي يبدأ باختلاس النظر إلى “جانيت” وهي تدخل الحمام، وبواسطة منظار… ويراهن هنا هيتشكوك على ما يسمى “لذة المراقبة”، والتي تتمثل بالفضول والحملقة لاكتشاف شيء ما غير عادي واتهامي (وهذه طبيعة بشرية ترتبط بحب الفضول وسوء الظن بالآخرين)، وحيث يتمكن ببراعة فائقة من تحويل الجمهور لشاهدي حضور، مما يعزز سيكولوجياً من تفاعلهم الإيجابي مع الأحداث السينمائية، وقد تميز هيتشكوك بهذا النمط من الإخراج كما تميز بالاقتصاد في الحوار وتقنينه لحده الأدنى الضروري، فهو يترك الكاميرا تتحدث وتروي… ويتركنا نراقب ونرصد! يشير الفيلم لأسلوب هيتشكوك الاستحواذي بالإخراج من حيث السرية الكاملة وعدم التحدث لوسائل الإعلام والصحافة، حتى أنه يوعز بشراء كل النسخ المتوفرة في المكتبات من القصة حتى لا يعرف أحد حبكة الفيلم، كما أنه لا يسمح إطلاقاً لممولي الفيلم بالتدخل أو حتى بزيارة الاستديو أثناء التصوير!
لقطة الاستهلال في الفيلم كانت مميزة، حيث شاهدنا فيما يبدو المجرم السادي الحقيقي وهو يقتل أخاه غدراً بمجرفة محطماً رأسه، بعد أن أسمعه هذا الأخير تعليقاً لاذعاً ساخراً من اتكاله وتعلقه المرضي بأمه، ونلاحظ هيتشكوك وكأنه شاهد عيان على الجريمة يخبرنا بطرافة ولا مبالاة عن “قصة الصراع الأبدي بين قابيل وهابيل”! كما نشهد بلقطات متقطعة بعد ذلك تعايش المجرم مع جثة أمه المتوفاة حتى أنه يقوم أحياناً بالنوم بجانبها وكأنها ما زالت حية، حيث يبدو لاحقاً وكأنه قد تقمص شخصيتها بشكل كامل، وخاصة بعد ارتكابه لجرائمه العديدة (حيث وجدوا عشرة رؤوس مقطوعة لفتيات شابات في مزرعته)، كما أن اللقطة الأخيرة ذات دلالة ومغزى، حيث نرى هيتشكوك بطلَّته الكاريزمية وبأسلوبه المميز بالحديث يخبرنا بأن حدسه الذي لا يخطئ سيقوده حتماً لعمله القادم المميز، ونرى غراباً أسود ناعقاً يحط على كتفه في مجاز واضح لفيلم “الطيور” المثير الذي تلا “سايكو”، والذي كان عملاً نادراً وغريباً واستبصارياً… وهذه تعتبر موهبة إخراجية فذة تميز بها هيتشكوك، من كونه كان يرفض كل الأعمال والقصص التي لا يقتنع بها، وقد حاول الكاتب “الواعد” صديق زوجته ممارسة كل الضغوط علية للاقتناع بكتابته ولكنه كان يسخر من سذاجة السرد والحبكة، كما رفض ضغط ممولي الفيلم ومنتجيه لإخراج عمل تجاري- سطحي يحقق الأرباح في “صندوق التذاكر”، على الرغم من معاناته وزوجته من ضائقة مالية شديدة كادت تعرضهما لرهن منزلهما الوحيد والتخلي عن حوض السباحة الباذخ المرافق للمنزل.
الفيلم يتناول بمعظمه الظروف والملابسات وحتى العراقيل والاحباطات التي صاحبت صناعة الفيلم الشهير سايكو (1959-1960)، كما يتناول بالتفصيل الحالة النفسية والاجتماعية لهيتشكوك وزوجته خلال صناعة الفيلم، وإن كان يركز على أحداث ومصادفات مختارة، إلا أنه يعطينا فكرة جيدة عن حياة وطباع المخرج الشهير، كما أنه يشير لرابطة الحب والمودة الكبيرة بين الزوجين ولجشع منتجي الفيلم وعدم تفهمهم، وهو منجز بأسلوب نمطي وحافل بالفكاهة والمرح والسخرية التي ربما كانت ستمتع هيتشكوك نفسه، وخاصة مع إبداع هوبكنز بتقمص الشخصية وإعادة إحيائها ، والإعداد المذهل لشخصية هيتشكوك الأصلية ونمط طباعه وحديثه وحتى طريقة أكله، حتى كدنا ننسى أن هذا تمثيل، مما جعلنا امام فيلم ممتع ومسلٍّ للغاية… كما أن الفيلم يعد معالجة نادرة من خلف الكواليس والأبواب المغلقة لمخرج أسطوري بارع و”شيطاني” محب للحياة، ساخر ومتباهٍ وتلقائي، وكان يتماهى مع أبطال أفلامه ويعجب بالبطلات الجميلات الشقراوات بشكل خاص، ولم ينسَ مخرج الفيلم “غيرفاسي” أن يجعلنا نتأمل الجانب الحزين – الضجر لشخصية هيتشكوك (المحبط أحياناً)، إلا أنه يجب التنويه بافتقاد الفيلم لأسلوب هيتشكوك الرؤيوي بالإخراج، ولإعطاء زوجته دوراً افتراضياً أكثر من المتوقع بإنجازاته السينمائية، وبرصد مبالغ به لصفات وعناصر غير جوهرية في سلوكيات هيتشكوك، مما جعل الفيلم يهبط لمستوى غير متوقع بتناوله “السطحي” للشخصية السينمائية العبقرية، وربما يكون “ساشاغيرفاسي” وكاتب القصة “جون ماكلولين” قد قصدا ذلك بعمد لإعطاء نكهة إنسانية للشريط ولجذب وإمتاع الجمهور، ولكنهما بالتأكيد أهدرا فرصة لن تعوض، حتى أن بعض النقاد المتزمتين قد وصف الفيلم بـ”أنه رحلة مخيبة للآمال في تاريخ السينما”!