فاضل الكواكبي
المكانة الرفيعة التي شغلها الراحل نور الشريف في الفن والثقافة العربيين، تتمحور حول مواقف وأفكار وإنجازات… ولكنها تتركز برأيي حول قدرة هذا الفنان على خوض صراع غير مرئي مع سياقات سينمائية وثقافية تزامنت ومساره المهني، ونجاحه في إخضاع هذه السياقات لتكوينه الثقافي المؤسس في ستينيات القرن الماضي.
في أواسط الستينيات تلك بدأ ظهور مجموعة من الممثلين الذين تخرّجوا من المعهد العالي للفنون المسرحية (تأسس العام 1958) وكانت السينما المصرية الآخذة في النمو النوعي السريع منذ منتصف الخمسينيات؛ قد شهدت تباشير قفزة جديدة تزامنت مع إنشاء المؤسسة المصرية العامة للسينما (العام 1962)، إذ بدت التجارب السينمائية الجديدة أكثر قدرة على اقتراح أشكال فنية مغايرة للسائد؛ وبأدوات فيلمية متجدّدة، فرغم تعدّد الأساليب والأجيال إلا إن الستينيات شهدت ذروة في نضوج الخطاب السينمائي لمخرجي الخمسينيات الطليعيين: (يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، توفيق صالح…) والكلاسيكيين (هنري بركات، كمال الشيخ، فطين عبد الوهاب، حسن الإمام…) إضافة إلى المخرجين الجدد الذين قدّموا تجارب شديدة الأهمية على صعيد ثراء الصورة وجرأة السرد الدرامي – بصري (حسين كمال، سيد عيسى، سعيد مرزوق، شادي عبد السلام، محمد راضي، علي عبد الخالق…) وبعض هؤلاء كان من الدفعات الأولى للمتخرجين من المعهد العالي للسينما (تأسس أيضاً العام 1958) .
لم يكتف هؤلاء المخرجون بإعادة اكتشاف ممثلي الأجيال السابقة (محمود المليجي، شكري سرحان، كمال الشناوي، صلاح منصور…) بل بحثوا عن ممثلين ذوي حضور متمايز جديد أكثر انسجاماً مع جدة الخطاب السينمائي فظهر مسرحيون أكاديميون في أدوار أولى رغم أنهم لم يقدموا كنجوم من مثل: (أحمد عبد الحليم، كرم مطاوع) واكتشف عملاق في الأداء (محمود مرسي).
وعندما اكتشف السينمائيون الثلاثي الأكاديمي (نور الشريف، محمود ياسين، حسين فهمي) استطاعوا أن يقدموا الأولين في تجاربهم الطليعية؛ فبرز الشريف في «الحاجز» لمحمد راضي (1969) و «السراب» لأنور الشناوي (1970) و «زوجتي والكلب» لسعيد مرزوق (1970)، بينما برز محمود ياسين في «القضية 68» لصلاح أبو سيف (1968) و «ليل وقضبان» لأشرف فهمي (1970) و «أغنية على الممر» لعلي عبد الخالق (1970)، أما (فهمي) فقد ظهر في فيلم تقليدي متقن لحسن الإمام هو «دلال المصرية» (1969) المقتبس عن «البعث» لتولستوي.
وقد اكتشف مع هذا الثلاثي ممثلون آخرون تميّزوا بحساسية أدائية جديدة وحضور فيزيقي مغاير للتقليدي، فأدّوا أدواراً أولى في بعض أبرز أفلام تلك الفترة (عزت العلايلي، احمد مرعي، حمدي أحمد…).
بداية السبعينيات
ولكن بداية السبعينيات شهدت انحساراً لموجة التجديد والبحث السينمائيين؛ فقد حلّت مؤسسة السينما (1971) وبدأ الابتعاد عن المشروع النهضوي الحداثي الذي ساد في العقدين السابقين.
من هنا عادت السينما المصرية لتحاول إحياء الخطاب التقليدي مع بعض التجديد والجرأة الجنسية؛ ومن أنواع هذا الخطاب الميلودراما الصارخة، كوميديا (الفارس)، التشويق الخفيف، وفي خضم هذا النكوص ظهرت أفلام فنية ناجحة، لكنها كانت شديدة الندرة؛ خاصة أن قسماً كبيراً من مخرجي الستينيات المجدّدين قد تحوّلوا إلى صناعة السائد مع محاولات وجلة للارتفاع به إلى مستوى الفني، ولم يعد هناك في هذه السينما متسع لـ «الممثل الجديد» فانسحب مرسي والعلايلي ومرعي وغيرهم إلى الدراما التلفزيونية أو الأدوار الثانية في السينما.
ماذا فعل نور؟
ماذا إذاً عن الثلاثي؟ وكيف تحوّل أضلاعه إلى نجوم في السبعينيات؟ بالنسبة لحسين فهمي فقد استخدم كنمط للممثل ذي الملامح الجميلة البرانية، أما ياسين فقد كُرّس نجماً عبر أدائه المسرحي ذي النبرة الوعظية الأخلاقية المناسبة للشكل الميلودرامي التقليدي المستعاد، فما الذي فعله نور الشريف وكيف استطاع أن ينجو بحساسيته الجديدة من مطب السبعينيات؟
أظنّ أنه اندغم في سينما السبعينيات عبر مسارين: الأول هو تواجده المكثّف في السينما التقليدية السائدة؛ وذلك عبر الحضور في أفلام النوع بمستوياتها، بل إنه استطاع أن يُخضع أداءه ليصبح منسجماً بشكل كبير مع الميلودراما الصارخة في أفلام حسن الإمام وعاطف سالم وآخرين؛ كما الكوميديا الخفيفة في أفلام نيازي مصطفى ومحمد عبد العزيز وآخرين.
بطولة هذه الأفلام كرّسته نجماً شعبياً ولكنه في المسار الثاني دافع عن أدوات الأداء الرفيع والمغاير عبر مشاركته في مجموعة من أفضل أفلام ذلك العقد كـ(الخوف) لسعيد مرزوق (1972) و(الكرنك) لعلي بدرخان (1975) و(سونيا والمجنون) لحسام الدين مصطفى (1976).
بل إن الشريف وعندما أحسّ بنقص في هذه الأدوار المتميّزة عمد إلى الإنتاج لنفسه مع مخرجين موهوبين. ولعل إنتاجه وبطولته لفيلم (ضربة شمس) لمحمد خان (1980) نبع من إحساس مبكر لديه بتباشير ظهور ما سُمّي (الموجة الجديدة في السينما المصرية) التي كُتِب على الشريف أن يكون أحد مداميكها على مستوى الأداء التمثيلي (مع أحمد زكي).
لعل تحفة علي بدرخان «أهل القمة» (1981) كانت نقطة التحوّل الأساسية في مسار الشريف السينمائي، فهذا الفيلم قدّمه فنان بلغ ذروة النضوج؛ إذ ظهر فيه كممثل يمتلك حساسية سينمائية قادرة على تلبية متطلبات مخرجي تلك الموجة الجديدة.
وإذا كان الشريف قد قام ببطولة الفيلم ـ المانيفيستو ـ لهذا التيار وهو «سواق الأتوبيس» لعاطف الطيب (1982)، فإننا سنلاحظ أن معظم أعماله التالية قد تمّت مع (الطيب) وكانت قليلة مع الآخرين! ومرد ذلك باعتقادي هما أمران: الأول انسجام أسلوبية الطيب (التي هي خليط من البنية السردية الكلاسيكية والخطاب السينمائي الواقعي الحار) مع ما تراكم من أدوات الأداء وأنماطه عند الشريف، إذ اجتمع لديه النمط الكلاسيكي الذي أخذ أحياناً طابعاً مسرحياً ومقولباً مع الحساسية الواقعية النفسية الآتية من مدرسة «المنهج» بما تفرضه هذه المدرسة من التصاق حار بالبيئة والمكان.
أما الثاني فهو المنافسة الشديدة التي واجهت الشريف من قبل ممثلين أكثر قدرة على تلبية متطلبات مخرجي هذه الموجة وعلى رأسهم أحمد زكي.
وفي عودة إلى عمل الشريف مع (الطيب) نرى أنهما قدّما أعمالاً بارزة كـ «قلب الليل» (1989) عن رواية نجيب محفوظ و «ليلة ساخنة» (1995) آخر تعاون بينهما، ولكنهما قدما أيضاً عملاً ضعيفاً ـ رغم كل النيات الطيبة! ـ هو «ناجي العلي» (1992) الذي اتسم بالخطابية والاستسهال الآتي من ترويسة أيديولوجية جاهزة وغير مشغولة، هذه الترويسة أدت إلى هزال في الأداء لدى المخرج والممثل معاً!
الثمانينيات والتسعينيات
يجب أن أشير إلى أن الشريف لم يتوقف في الثمانينيات والتسعينيات عن أداء أدوار البطولة في السينما السائدة، ولكن وباستثناء بضعة أفلام (أخرجها له خاصة علي عبد الخالق) فإن هذه السينما كانت قد فقدت في هذين العقدين قدراتها الحرفية مما أثّر سلباً حتى على نجومية أبطالها وللأسف كان الشريف من بينهم.
بسبب هذا التغيير الجذري الذي أصاب مسار السينما المصرية في العقد الأول من قرننا مع ظهور ما سُمّي (السينما الشبابية الخفيفة) بنجومها من كوميديين جدد وغيرهم، وجد الشريف نفسه أمام فراغ كبير، ولم تستطع الأفلام الفنية الجديدة – على قلتها – أن تستقطبه في أدوار مكتوبة خصيصاً له أو أدوار أساسية ثانية – كما يحصل مع نجوم هوليوود – ولعل الاستثناء الوحيد كان دوره في فيلم مروان حامد «عمارة يعقوبيان» (2006) عن رواية علاء الأسواني.
من هنا فقد اتجه الشريف للعمل بكثافة في الدراما التلفزيونية التي كان قادراً من خلال خطابها التقليدي المجدد بصرياً والشعبوي ضمناً أن يقدم أدواراً احتفظ بها بنجوميته عبر أداء متقن موجه لجمهور شاشة صغيرة مازال يتقبّل أدوات أدائية أكثر تقليدية من جمهور السينما.
لعل القارئ قد لاحظ أنني لم أتطرّق في هذا السرد التاريخي – النقدي إلى تجربة الشريف مع المخرج الكبير يوسف شاهين ومردّ هذا إلى أن تجربة شاهين بعد «العصفور» (1973) أضحت ذات سياق منفصم عن السينما المصرية بمختلف اتجاهاتها، فالإيغال في الفهم السطحي لسينما المؤلف؛ جعل من أفلام شاهين المنجزة منذ النصف الثاني من السبعينيات – رغم تميّزها البصري وسجاليتها العالية – جعلها تبتعد عن مسار المنجز السينمائي المصري كمنجز ثقافي عميق، فهذه الأفلام رغم فذلكتها السردية والبصرية امتلأت أحياناً كثيرة بالوعظ والمباشرة. ولعل الشريف في أحد أهم هذه الأفلام «حدوتة مصرية» (1982) عن قصة يوسف إدريس كما في أحد أكثرها سطحية «المصير» (1997) قد أفاد شاهين كثيراً إذ خفف لديه النزعة غير السينمائية في جوهرها؛ نحو إلزام الممثلين بأن يؤدوا أدوارهم متأثرين شكلاً بأسلوب شاهين (الأداء) وهو فهم براني وركيك.
لقد ألزم الشريف شاهين – وهو الرائد الكبير للسينما الفنية المصرية منذ الخمسينيات – أن يعود ليشتغل على الممثل كما كان يفعل في أفلامه الكلاسيكية الكبيرة؛ ولعل في هذا فضيلة أخرى من فضائل هذا الفنان الذي كان له من اسمه نصيب: نور الشريف.
السفير