هيرمان ميلفل.. شكسبير أمريكا البائس


*نصر عبد الرحمن


يُعد هرمان ميلفل أحد أكبر وأشهر كتّاب الولايات المتحدة الأمريكية، ومؤلف رواية «موبي ديك»، التي يتفق أغلب النقاد على أنها واحدة من أعظم الروايات في العالم، بينما يحتفي بها الأمريكيون على نحو خاص، ويعتبرونها ملحمة أمريكية خالدة.

ولد ميلفل عام 1819 في مدينة «نيويورك»، وعاش طفولة مُضطربة للغاية. هرب من منزل الأسرة، عقب وفاة أبيه، وهو في الثانية عشرة من عمره، بسبب قسوة أمه عليه، لجأ إلى أحد أقاربه، وعمل لديه في مزرعة يملكها. اعتمد «ميلفل» على نفسه منذ الصبا، وعمل في مهن كثيرة، أكسبته خبرة حياتية وروائية، وفي الثانية والعشرين من عمره، قرر ركوب البحر، وخوض حياة المُغامرة التي قرأ عنها أثناء إقامته في المزرعة.
كانت تجربة البحر على عكس ما توقع، فقد التحق بسفينة صيد حيتان، ولم يحتمل المُعاملة الوحشية على متنها، فهرب منها أثناء تواجدها في مرفأ بأحد جُزر جنوب المحيط الهادي. أوقعه سوء حظه في يد قبيلة من أكلة لحوم البشر، لكنه تمكن من الفرار بعد أربعة أشهر ذاق فيها الهوان. ظل «ميلفل» يعمل على متن سفن صيد الحيتان لعدة سنوات، ثم عاد إلى الولايات المُتحدة، وتزوج عام 1847. نشر في ذات العام أول روايتين كتبهما: «تايبي، خيمة الهندي»، و«أومو: مغامرات في بحار الجنوب»، وهما أقرب إلى السيرة الذاتية عن مدة عمله في صيد الحيتان. لم يلتفت النقاد أو القراء للروايتين على الإطلاق. وكان قد تعرض لمأساة موت طفليه في نفس العام، فقرر السفر إلى إنجلترا، وهناك كتب رائعته الخالدة «موبي ديك» عام 1851، التي لم يلتفت إليها أحد كذلك. 
لازمه سوء الحظ في إنجلترا، وسرعان ما تعرض لعدة أزمات اقتصادية جعلته يخسر مزرعة في «بتسفيلد»، ثم بدأ تجارة الكتب، إلا أن النار التهمت مخزنه بالكامل، وكان عليه أن يقبل وظيفة بسيطة في أحد المواني، وقرر التوقف عن الكتابة بعد تسع سنوات، ألف فيها سبع روايات، من دون أي مردود مادي أو أدبي. مات «ميلفل» عام 1891، دون أن ينشر رائعته «بيلي باد»، التي ظلت حبيسة الأدراج حتى عام 1934، حين عثر عليها مؤلف سير ذاتية بين أوراقه.
مات «ميلفل» مجهولاً، ولم تتحقق شهرته إلا في عام 1912، حين أعادت إحدى دور النشر الأمريكية طبع روايته «موبي ديك»، فحققت شهرة مُنقطعة النظير، وتم الاحتفاء بها واعتبارها واحدة من أهم الأعمال الأدبية الأمريكية على الإطلاق، وانهالت المقالات والدراسات التي تُحلل الرواية وتشيد بمؤلفها، الذي حظي في ذلك الوقت بلقب «شكسبير أمريكا»، لمهارته الشديدة في التعبير باللغة الانجليزية، وقدرته على تحليل الذات البشرية. 
كان «ميلفل» يكتب على غرار من سبقوه من رواد الرواية الإنجليزية؛ خاصة رواية المُغامرات، ويتبع طريقتهم في الحبكة وأسلوبهم في السرد، إلا أنه حاول وضع بصماته الخاصة أحياناً. ولقد تميز باعتماده على عدة مُغامرات خاضها بنفسه، مكنته من الاطلاع بشكل وثيق على الحياة في جُزر «بولنيز» جنوبي المُحيط الهادي، وكان العالم الروائي المُفضل لديه هو ما يحدث على متن سفن صيد حيتان العنبر، وفوق تلك الجُزر.
جاءت أغلب أعماله أشبه بالسيرة الذاتية؛ تحكي تجاربه الخاصة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، وكان يستخدم صيغة الراوي العليم في سرد أحداث رواياته، مما أتاح له التدخل كثيراً، وكسر نمط السرد، واستعراض المعلومات التاريخية والجغرافية والسياسية عن تلك المنطقة المجهولة من العالم. فحين يصل الراوي في رواية «أومو» (مثلاً) إلى جزيرة «تاهيتي»، يتوقف السرد الروائي، ويلجأ الكاتب لعبارات تمهيدية من قبيل «سأتوقف عن سرد الأحداث حتى أقدم لكم بعض المعلومات عن…»، ثم يبدأ الراوي في وصف الأحداث السياسية، وطبيعة الحكم، وطريقة اختيار الملكة، وأنواع النباتات والحيوانات الموجودة على الجزيرة، وطبيعة أهلها وثيابهم وطعامهم وعاداتهم، وكان يصدر عليهم أحكاماً مثل اتهامهم بالكسل والنفاق. 
يتكرر هذا الموقف في رواياته كلما قابل مكاناً أو شخصاً أو حدثاً لدرجة تجعل من رواياته شهادات تاريخية على طبيعة الحياة في جُزر جنوبي المُحيط الهادي، في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ورغم أن تقاليد السرد الروائي قد تجاوزت هذا النمط من الكتابة، إلا أنه لا يزال يحتفظ بجمال خاص؛ ينبع من طرافة التناول وغرابة المعلومات عن عالم بدائي مجهول لأعلب القراء، وتجعل هذه الخاصية رواياته مزيجاً مع أدب الرحلات، وأدب السيرة الذاتية، والبحث الاجتماعي التاريخي.
تتسم حبكة روايات «ميلفل» بالمرونة، إذ تتكون من عدة وحدات مُنفصلة، ترتبط بالمُغامرات أو الأماكن في الغالب. وكان الراوي يُشير إلى ما قد يقع في المُستقبل؛ بمعنى أن يقول عند وداع شخص إذا كان سيلقاه مرة أخرى أم لا، أو سيعود إلى هذا المكان مرة أخرى أو لن يعود إليه. وعلى عادة كُتاب القرن التاسع عشر، كان يضع عنواناً لكل فصل من فصول روايته، وغالباً ما يكون هذا العنوان «تلخيصياً» بمعنى أنه يُلخص الفصل، فكان يختار عناوين من قبيل «وصف السفينة»، و«تفاصيل هربنا من الجزيرة»، وغيرها من العناوين التي تكشف مسبقاً عن بعض الأحداث، وهو ما قد يضر بالتشويق والإثارة. 
كان «ميلفل» يكتب بلغة إنجليزية رصينة، يُنوع فيها بين اللهجتين الأمريكية والبريطانية، ويكتب الكثير من العبارات من لغات سكان الجُزر المحلية، ويمكن القول إنه يتمتع بحساسية لغوية خاصة، ناجمة عن احتكاكه بمجموعات لغوية مُختلفة. وتتسم الجمل لديه بأنها طويلة للغاية، قد تصل إلى عشرين سطراً، وتتضمن الكثير من العبارات الاعتراضية. كما كان «ميلفل» شديد الدقة في الوصف، ويعتمد على العديد من المُترادفات في وصف الأشياء، والعديد من الكنايات لوصف الأشخاص، وتلعب اللغة لديه دوراً في تحديد المكانة الاجتماعية في جُزر جنوب المُحيط الهادي، حيث يحاول علية القوم من السكان المحليين التحدث بإنجليزية صحيحة، بينما يتحدث العامة بمزيج لغوي مُتنافر وغير دقيق.
تحمل أعمال «ميلفل» تأملات عميقة في طبيعة النفس البشرية، وعدم قدرتها على استيعاب العالم من حولها، ويلعب الرمز دوراً كبيراً في بعض رواياته، ويكشف عن موقفه من الحياة، فقد اتخذ هذا العبقري البائس، قليل الحظ من الحياة موقفاً وجودياً سلبياً، ورأى أن ثمة حدوداً للقدرة الإنسانية، العاجزة عن مواجهة الطبيعة، وتصاريف القدر، كان هذا هو الموقف الذي اتخذه «ميلفل» في الحياة، حين توقف عن الكتابة، وتخلى عن طموحه، وقبل بوظيفة بسيطة، وهو ذات الموقف الذي عبر عنه رمزياً في نهاية رائعته «موبي ديك»، حيث سرد الراوي، «إسماعيل»، المشهد الأخير من مُطاردة طويلة لحوت شرس، انتهى بعجز القبطان «آهاب» عن الانتقام من الحوت، وموته مع طاقم السفينة.
____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *