أنا والموت وأُمِّي


*لينا شاهين


لقد توفيت الأم التي كان لها اسمان، لقد ماتت باسمها الجديد وستبقى حية باسمها القديم. وضعوها في ثلاجة هي التي كانت تحلم بأن تملك ثلاجة الأبنة ترى نفسها ميتة في أمها والناس في العزاء يثرثرون ويواصلون الطقوس

لم أحبب تلك النسوة اللاتي يتَّشحن بالسواد، حتى أنني لا أعرفهن لينادينني باسمي، لم أشاهدهن من قبل، أوركسترا أعضاؤها لا يجيدون العزف إلا على الأحزان الشعبية، خدودهم دفوف، وآهاتهم ناي، الآلات مضبوطة على إيقاع واحد، فلقد اعتدتُ على اللحن قليلاً لكنه شيءٌ يشبه المخاض، مع ذلك كنت أنتظر أن يبدأ من جديد، السيدة التي قامت بمهمة الغسيل تتسيّدهنّ جميعاً؛ ربما لأنها تحفظ بعض الآيات اللاتي عجزت عنها بقية السيّدات، ويمكن لأنها تغسل الموتى من النساء بجرأة، وكأنها تتبرّج، أظن أن رتق ثوب مهمة شاقة لن تستطيع القيام بها، لكنها كانت ماهرة في تمزيق ثياب الميت، تجلس وسطهن بعينيها الملونتين ثم تحتضن بطنها بكلتا يديها كأنها قائدة مجموعة ذئاب، أو كلاب تجرّ مزلجة، مجموعتان من نساء؛ كل واحدة منهن كأنها موثقة على هذه المزلجة، مسافات متباعدة بينهن حتى لا يتعاركن، خيوط وهمية تتفرع وتربطهن مع تلك السيدة قائدة المجموعة.
أن نموت أسهل من أن نعيش الموت، أو نكتب عنه، هذه الليلة قاسية، إنني أعيد شريط الذكريات مرات ومرات، حتى أكتب، أهرب ثم أعود؛ فهناك شيء ما قيّدني بقسوة في ذاك اليوم، ربما كنتُ مقيدة كتلك النسوة ولي خيط يربطني مع تلك السيدة الغريبة، ولا سبيل للخلاص من ذلك القيد إلا حرقه بالكلمات: «تطهير بالحبر».
لوهلة أبحث عن وجه أمي بين الوجوه ثم أتذكّر أن هؤلاء النسوة هنا؛ فأمي غيبّها الموت، حاولتُ أن أعقد عدة صفقات مع الله حتى لا تموت، لكن الصفقات والنذور لم تكن مغرية كفاية حتى يتركها تعيش يوماً آخر، سنةً أخرى.
أحياناً أشعر أنني لم أحسن إبرام صفقة مقايضة معه، إذ كنا امرأتين وحيدتين في غرفة المستشفى؛ وقتها طلبتْ مني أن أفتح لها النافذة، حيث كان ثمة طيور قبالة الشرفة، الطيور ذاتها التي كنت أشاهدها تحوم في المسلسل الكرتوني العجيب «جزيرة الكنز» لتبشر بالموت، كنت أظنّها ذاتها من أرادت أن تستنشق الهواء، لكنها كانت تفتح النافذة لملاك الموت، فما هي إلا أجزاء من الدقيقة تركتني حائرة ولا أدري ما أفعل.
أدركتُ تماماً أن هناك أحداً ما كان يسلبها روحها، فأضمّها، أمسك بيدها، لكن هل أخلع ثيابي حتى يهرب ملاك الموت؟ أجل، كنت سأفعلها وأحرجه، لكن لسوء الحظ حضر الطبيب الذي سيان وجوده وعدمه، فلم يكن بالإمكان أكثر من التوسّل في لحظات كنت غائبة عن وعيي، فحاولت أن أكون خارج الموقف؛ أن أتخذ وضع المراقب، أنا وأمي في مواجهة الموت، ثانية واحدة أو أقل، أنا وحيدة، أمي والموت معاً.
في ثلاجة
أخبروني أنهم وضعوها في ثلاجة المستشفى ريثما يأتي الأقارب ويقومون باستكمال الأوراق الرسمية. (أمي في الثلاجة)! لقد كان أحد أحلامها أن يكون لديها ثلاجة بقياس عشرين قدماً أو أكثر، واليوم حقق الله حلمها بثلاجة أكبر، ثلاجة لا ينقطع عنها التيار الكهربائي! مضحكةٌ هذي الحياة، سكن مؤقت في «ثلاجة» حتى لا نفسد أكثر، كأي طريدة اقتنصها الموت في آخر رحلة صيد.
حتى في الموت عليك أن تخضع للقانون؛ وحسب القانون تدخل إلى الثلاجة لتخرج منها بأوراق ثبوتية، لا أعرف ما هي الأوراق التي استكملوها، أو إن كان هناك شهادات علينا إبرازها، بطاقتها الشخصية معي يجب أن أسلمها أيضاً، لو أن أمي هي خالتي التي لم تأتِ، ولم تتسلم بطاقة شخصية ولا رقماً وطنياً، جدي لأمي أراد مرةً تغيير اسم إحدى بناته بعد ليالٍ عدة من تسجيل ابنته عند مأمور النفوس، ولأن الاسم لم يُعجِب جدتي كان مطروحاً ليكون اسماً لجارتهم الجميلة.
لقد أجبرتْ تلك المرأة القوية جدي أن يغيّر الاسم، وحتى لا يتكلّف بمعاملة وأوراق رسمية، سجّلها باسم جديد، يمكنك بسهولة أن تقيّد إنساناً على سجلات النفوس أو تكلَّف بضريبة؛ فقط أخبرهم أنك حيّ، الاسم القديم بقي حيّاً إلى هذا اليوم، والمضحك أن اسمها كان (أمل)!
أمل
(أمل) الآن من غير بطاقة شخصية أو أية قيود، لكنها حيّة ولن تموت في قيد النفوس كأمي وباقي البشر، استطاع جدّي التلاعب على الحياة والقانون، لكن أمي المسكينة سيشطبون اسمها بالقلم الأحمر ويسجلون «واقعة وفاة». الغريب أنهم يستخدمون اللون الأحمر لتسجيل حالات الموت مع أنه يدل على القوة والإثارة، الحب والعاطفة، الطاقة، لون دبلوماسي وسجاد أحمر، البعض يقول إنه دليل انتماء لذلك يفرشون الأرض أمام الضيوف الرسميين بالسجاد الأحمر، إنه انتماء لأيديولوجيا الفناء، ربما لأن اللون الأحمر يتعلق بحب المغامرة، بينما يسجلون الأحياء بالحبر الأسود ربما لأناقته أو رسميته أو الغموض الذي يلفّه، أشياء غريبة لكن كيف أتت وما هو أصلها لا أعرف، كلها تشبه الموت بغموضها.
السيدة صاحبة العيون الملوّنة كانت امرأة مطلعة على من مات من ملوك ورؤساء لتؤكد نظريتها حول الموت؛ وأن أي كائن إلى زوال؛ خاصة الفقراء، طالما الحياة لم تستطع منع الموت من الاجتراء على أصحاب الثروات والسلطة، تضحك ساخرة على «مغسِّل القرية» الذي وجدوه قد مات وحيداً في داره البعيدة، وتردف: (لو أنه تزوّج كانوا عرفوا به)! كأنها تريد أن تنتقم منه لأنه لم يتزوّج، تعود لتخبرنا أن الموت لم يعُد ذلك الأمر الصعب، الكل يموتون حسب وجهة نظرها، والحسرة على الشباب فقط الذين استهلكتهم الحرب قبل أن يتزوّجوا؛ أو على حد تعبيرها: «ما شافوا شي من هالحياة»!
تعود تلك السيدة لتواسي نفسها: «لم يبقَ شباب في القرية، يا حسرة، لكنهم شهداء». هكذا ترش على الموت بعض السُكّر، وكأن الفقد يفرق. تختم حديثها بحمد الله على أن أمي ماتت على سريرها ولم تُخطَف، أو لم تمُت في تفجير سيارة مفخخة، معتبرةً أن من لا يموت على فراشه «مغضوب عليه»، خاصة من تعود جثته أشلاء أو لا تعود جثته أصلاً، تحاول أن تخفف عني وتنسى أن والدي لم يعد منه شيء؛ أي شيء؛ حتى قطعة الحديد التي تكون مع المحاربين للدلالة على شخصية القتيل لم يعثروا عليها، يقولون مات على دبّابته، أمي رحلت وهي تعتقد أنه سوف يعود قرأت لها مرة رواية «اللاز» للطاهر وطار: «عشر رصاصات ومات واقفاً، وعاد بعد الحرب». كانت أمي تطلب مني كل مرة أن أروي قصة (اللاز) مشافهة، كنت أعطيها جرعة أمل مع كل قراءة جديدة، أحياناً كانت تؤكد لي أنه ميت، كانت خائفة أن يكون أسيراً، أو يعود لنا بدم يهودي كما عاد أحد سكان القرية، الذي وقع أسيراً في يد الإسرائيليين خلال ثمانينيات القرن الفائت، فوضعوا له كميات من الدم اليهودي حتى يعيش، الكل في القرية كان يطلق عليه «تشيرنينكو»، ولكن لا أعرف سبب هذه التسمية، الكل يجزم أن اليهود غيّروا دمه فتحوّل إلى شخص منبوذ من أهالي قريته. أمي كانت تخاف أن يغيروا دم أبي وكان أهون عليها أن يكون ميتاً.
الثرثرة
الكلّ كان يثرثر كأنهم اعتادوا على الموت؛ يستغلون هذه المناسبات للتسلية، لم أعرف وقتها بالضبط مَن هو الميت أمي أو أنا؟ لا أعرف الوقت الذي قضيته في ذلك الصندوق الخشبي ولا طول الدهليز الذي سلكته نحو المجهول، حالة تشبه التخدير، كأن جسدك اقتحم المياه وانفصل عن العالم، متعة الغوص، ولا ذرة هواء واحدة، المجهول، الماء يحيط بكَ من كل مكان، الأصوات بعيدة غريبة متعبة متعرجة؛ هكذا على الأقل كنتُ أسمعها، تائهة بين انتظار الوصول إلى القاع أو محاولة تمييز وفهم الكلام، أنا لم أكن معي، حتماً كنتُ ميتة، أيقظتني كلمة «انتصار» إحدى النسوة تشدّ على كفي بقوة: «أمك انتصرت على المرض»! لم أعرف كيف انتصرت؟ هل الهروب اللاإرادي الإجباري نحو الموت انتصار؟ تعود تلك السيدة السمجة لتصرخ بين الحضور: «الفكرة لا تموت» لا أعرف من أين سمعت بهذه المقولة، وما علاقة الفكرة بأمي؟
أسئلة كثيرة وقفت حائرة عندها حول الموت: فما اللذة في جني رحيق أرواحنا؟ أدركت اليوم أن الحياة «جبّ» كبير نسقط فيه مع اللذة والمتعة والظلم والألم والحزن. كل ما كنتُ أريده في تلك اللحظة الهروب من القرية، من الدموع واللون الأسود والكوابيس الطويلة، من الوحدة مع نساء استسلمن لفكرة الموت، ورضخن للماورائيات، أريد أن أعود إلى صخب المدينة وأبواق السيارات، باصات النقل الصغيرة التي تشبه برادات حفظ الجثث في المشرحة، إلى شريعة العصا والقذيفة والخنجر والسيف، الرصاصة والقنبلة، شريعة القتل الجماعي ورحلات الموت الجماعية في البحر، لا أريد أن أموت ببساطة في القرية بين مجموعة نسوة يعشقن الثرثرة والحزن وانتظار الجثث. نعم كما قالت تلك السيدة سأترك أمي في القرية «فكرة» أزورها كل حنين، وأعيش في المدينة وأموت فيها برعاية نشرة أخبار مزينة بشريط عاجل لونه أحمر يشبه الشريط الذي يلفون فيه الدببة في عيد الحب، لا أريد أن أموت وحيدة، أو أكون على جنازة وأثير المتاعب، لا أريد أن يحضر المتطفلون للثرثرة، علينا أن نعرف كيف نموت، ربما لن أموت مرة ثانية وألعب مع الحياة لعبة التقمص، هناك الكثيرون ممن ذهبوا ولم يعودوا. من قال إنه لا يموت إلا الأغبياء.
____
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *