سناء البيسي*
شفتم عمايل الحماوات السوداء في القرى والمدن والدول والأمم وصفحات التاريخ، وما تم على أيديهن من بلاوي وخراب بيوت وتشتيت للعيال من جراء دس أنوفهن في حياة الزوجين، سواء أكانت فصيلة الحماة منتمية للزوجة أو للزوج.. وإذا ما كانت حالات الطلاق في مصر قد بلغت هذا العام 2015 ما يقرب من 240 ألف حالة إلى جانب ما تشير إليه التوقعات الدرامية مع تزايد السكان وتفشي البلاء إلى وقوع حالة طلاق مقابل كل حالة زواج مع قدوم عام 2025، فالسبب الرئيسي في غالبية الحالات يعود للحماة التي أصبح من مهامها القيام بدور المرشد والخبير والموجه والأستاذ والملجأ والناصح والأمين والصدر الحنين، والمنصت الصبور، والسماعة الأخرى، وبحر التجارب، وقارئة الكف، ومقتفية الأثر، وفاتحة المندل، وآذان الاستشعار، والرادار عن بعد، والأشكيف، والكرباج، وأبلة الناظرة، والمشرط، والدبوس، والحفاّر، والآلة الحاسبة، والمرصد، والمفرمة، والملقاط، والقضاء المستعجل، والقبضاية، والمنتقم الجبار، والآخذ بالثأر في عالم خرج فيه كـل من الزوجين للعمل الذي يأخذ كل الوقت والجهد بلا مساحة للجلوس للـهدوء لالتقاط الأنفاس للتفاهم والتآلف والتراحم والتصالح والانسجام والوئام، وتبادل وجهات النظر في المشاكل العائلية الطارئة والمزمنة، وليس هناك الآن أسهل من تلقى النصيحة الدليفري الجاهزة المعلبة القادمة من لدن الماما: ورضينا بالهم.. ويضرب راسه في الحيط.. واطبخي يا جارية كلّف يا سيد.. على راسه ريشة.. وغلبت أقول لك قصقصي طيرك.. عامل لي أبو على.. ديك البراري يعنى؟!.. اللـه يرحم.. اللـه يكون في عونك يا بنتي.. وإن كان ناسي أفكره لمّا كان قرّب يلحس العتب.. سكتناله دخل بحماره.. ويحلف لي أصدقه أشوف أموره أتعجب.. بختك طالع لبخت أمك.. وليه يا بخت لبّخت.. كله من أمه.. يجيلها ويحط عليها.. أشوف فيه يوم.. قادرة وفاقدة وناقدة وحاقدة.. لازم له وقفة… وعلى الجانب الآخر: الباب يفوّت جمل وأجيب لك من الصبح ست ستها.. كانت في جرّة وطلعت لبرّة.. اكفي القِدرة على فمها تطلع البت لأمها.. كان عليك تدبح لها القطة من ليلة الدخلة.. كان عليك من ده كله بكام.. كله من طيبة قلبك وفتحة صدرك.. صنف مايملاش عينه إلاّ التراب.. وأنا كنت دُست لها على طرف أم بارم ذيله لما تلوي لي بوزها شبرين.. اللـه يكون في عونك يا بني.. كله من أمها.. لازم لها وقفة..
الموضوع قديم وأزلي وعلى جميع المستويات من أول سكان العشش لأصحاب القصور والفيلات، واليوم عندما يقوم عالم الآثار البريطاني «نيكولاس ديفز» بالبحث عن مقبرة نفرتيتي المفقودة منذ عام 1375 قبل الميلاد في وادى الملوك بالأقصر داخل إحدى الحجرات الخلفية لمقبرة توت عنخ آمون ليعلن عن نتيجة اكتشافه في أوائل نوفمبر القادم مستخدما أحدث أجهزة الرادار اليابانية والتي ستكون في أهميتها وقيمتها في حالة إذا ما ثبت صحتها ما لا يقل أهمية عن بئر الغاز الأسطوري الذي اكتشفته شركة إيني الإيطالية في الشهر الماضي في مياه البحر الأبيض المتوسط، ففي كليهما طالع السعد وبشائر الخير على أم الدنيا مادياً ومعنوياً وتاريخياً وسياحياً.
نفرتيتي جميلة الجميلات التي يشير أصبع الاتهام في أسباب انكماشها ثم انزوائها وبعدها اختفاؤها وتشفيرها وضياع مقبرتها وتابوتها وحياتها إلى حماتها الملكة «تي» زوجة أمنحوتب الثالث وابنة الكاهن ورئيس الفرسان التي كان زواجها خروجاً على التقاليد الملكية، حيث كانت العادات في «طيبة» أن يتزوج الأمير بأخته غير الشقيقة أو بإحدى أميرات القصر الملكي، لكى يحتفظ بالدم الأزرق في العائلة، لكن قوة شخصية «تي» ابنة الشعب فرضت وجودها لتلعب دورا بارزا في مشاركة الزوج قيادة البلاد، لتنجب له في مسيرة الارتباط الملكي التوافقي البنين والبنات، وأكبرهم أمنحوتب الرابع الذي تولى الحكم بعد وفاة والده وعمره لا يزيد على 12 عاماً، ومن هنا كانت «تي» الحاكمة الحقيقية لمصر لفترة لا تقل عن خمس سنوات باعتبارها وصية على الملك الصغير، ويؤكد هذا الكـلام خرطوش عثر عليه في أحد محاجر العمارنة نقش عليه اسم الملكة «تي» دون أن يكون مصحوبا باسم زوجها أو ابنها.. وظلت الملكة الأم ترسم الطريق الذي اختارته للابن لتنفيذ سياستها الهادفة إلى إيجاد موازنة بين سلطان الملك وقوة وجبروت كهنة آمون، ومن هنا كانت المسئولة عن تصرفات الابن أمنحوتب الرابع في بداية حكمه وعن كل ما حدث من صراعات بينه وبين الكهنة، وعندما اتسعت شقة الخلاف وبلغت مداها في العام السادس من الحكم، هجر الابن طيبة إلى عاصمته الجديدة في «تل العمارنة» بالمنيا التي أسماها «أخت تون»، أي مشرق آتون ناقلا إليها زوجته وجميع أفراد عائلته ورجال قصره، ومن تبعه من خاصته، وأقسم يمينا سجلها محفورة على اللوحات التي أقامها في حدود المدينة بأنه لن يغادر هذه الحدود طالما كان حياً بعدما غيَّر اسمه من «أمنحوتب الرابع» إلى اسم جديد يؤكد به صلته بمعبوده فاختار «أخ إن تون» أخناتون، وترجمتها المفيد للإله آتون «قرص الشمس» أي روح آتون، ومن المؤكد أن فرعون مصر قد قاوم مصاعب ضخمة لنشر مذهبه الديني، لكنه لم يكن فردا عاديا بل مؤمنا عنيدا صاحب عقيدة صلب الإرادة، وقد وجد له معضدين كثيرين مثل كهنة منف وعين شمس الذين شجعوه للقضاء على عبادة آمون، فقام قبل انتقاله لعاصمته الجديدة بوضع يده على أملاك الكهنة جميعاً بما فيها من أملاك كهنة آمون، مع محو جميع أسماء المعبودات والآلهة من جميع الآثار الموجودة، حتى في المقابر الملكية القديمة بـ«طيبة»، وتحطيم التماثيل التي نصبها ملوك الإمبراطورية في مجدها حول الكرنك وداخله، ثم محا من تماثيل أجداده ووالده كل ما له علاقة بـ«آمون» دون مراعاة لمنزلتهم السابقة، ثم محا اسم والده أمنحوتب من معابد طيبة كلها لاشتماله على اسم آمون، وذلك منعاً لظهور اسم ذلك المعبود في الأمكنة الرفيعة بالمعابد، وأقام ثلاثة معابد لآتون إحداها في النوبة وسماه «جم آتون»، والثاني في سوريا، والثالث المعبد الحكومي الرسمي داخل العاصمة، أما قصر الملك وقصور الأمراء فقد شُيّدت حول المعبد ليصف أحد الأمراء مدينة «آخت آتون» بقوله: «بلد السحر، وسيدة المدن، وعظيمة الثراء، وإذا ما أشرق عليها آتون احتضن بأشعته ابنه المحبوب الأزلي أخناتون مرجع الأرض لخالقها» ولما وصل أول دخل من أوقاف معبد آتون لخزائن المدينة احتفل أخناتون احتفالا لم يسبق له مثيل ركب فيه عجلته في موكب ضخم مصحوباً بكريماته وكبار رجال دولته ليلقاهم الشعب على أبواب معبد آتون بهتاف صادح، ثم امتلأ المذبح بالقرابين، وغصّت المخازن بالدخل الوافر، وقد أنشدت نفرتيتي في الاحتفال أنشودة السلام إلى المعبود آتون بصوت رخيم وهي قابضة بيديها على آلتين موسيقيتين تعزف عليهما في وقت واحد، ولما كان أعظم ما يهبه الفرعون لأفراد رعيته حفر مقابر في صخور الجبال الشرقية أمر أخناتون بحفر تلك المقابر لهم في ذلك العهد السمح التي تميزت بخلوها من الرسوم المفزعة المعهودة الممثلة للوحوش الضارية التي تنتظر الميت يوم الحساب..
ولأنها أجمل قصة حب نقشت على جدران التاريخ عاش فيها الملك مفتوناً بمليكته فقد سجل الفنان الفرعوني أحداثها على جدران الوطن المسالم الصوفي الجديد بأدق تفاصيلها حتى أكثرها خصوصية وحميمية، فهناك لوحة يحتضن فيها أخناتون مالكة قلبه وقد مالت برأسها على كتفه داخل عربتهما الذهبية التي يجرها جوادان جامحان تتوج رأسيهما ريشتان ذهبيتان تجعدهما الرياح، وغالباً ما كانت المشاعر تتأجج ليتعانقا أمام جموع الشعب المتراصة لتحيتهما، وقد بهرها هذا النموذج الملكي الحي الساحر من العلاقات العائلية الحميمة، حيث اعتنق أخناتون أسلوب الابتعاد عن الكلفة والتحرك الطبيعي في بساطة وعفوية، لذلك لم يرغب في الاحتجاب هو وأسرته عن رعيته بل ظهر في جميع المناسبات والأعياد مصحوباً بزوجته وبناته، وهناك رسوم ما لها آخر يظهر فيها الزوجان الملكيان كمثال يطلان من شرفة غنية بزخارفها وفي صحبتهما الأميرة الصغيرة مريت آتون، وفي رسم آخر يقودان عربتهما ويتناجيان وجها لوجه دونما اكتراث لسلامتهما أثناء القيادة، ورسم للملك والملكة محمولين فوق محفتهما الملكية الفاخرة جالسين جنباً إلى جنب بينما تلف نفرتيتي ذراعها حول وسط أخناتون بينما يصطف الموظفون وفرق الجيش والأتباع والراقصات حولهما، وأحد الكهنة يطلق البخور أمام الجميع، ورسم لأخناتون جالس تحت الخميلة بينما تصب له نفرتيتي النبيذ وأمامهما تلعب ابنتاه مريت آتون وباكت آتون، ورسم تجلس فيه البنات على سيقان الأبوين الملكين بينما تُقبّل الملكة آخر العنقود.. ومنظر هام يعكس بداية تسلط الحماة «تي» على البيت السعيد عندما يأمر أخناتون برسم المائدة العامرة التي يجلس فيها ليقضم قطعة من اللحم المشوي بطول ذراعه، ونفرتيتي منهمكة في أكل بطة بشراهة بالغة، بينما الحماة «تي» تجلس في الصدارة بوقار منضبط وفوقها الشعار الملكي لآتون وعبارة «الملكة الأم وأم الملك أخناتون (تي) التي تعيش إلى أبد الآبدين» بينما تجلس تحت أقدامها بالذات فرق من الموسيقيين والأتباع.. وفي كل مكان داخل المجال رسم ولوحة ومنظر تم تسجيلها في المقابر الصخرية بتل العمارنة، وعلى أكثر من 30 ألف حجر من أحجار معبد آتون المحفوظة في مخازن الكرنك ومتحف الأقصر رسوم ظهرت في بعضها نفرتيتي تقوم ببعض الأعمال بالنيابة عن زوجها الملك مثل عقاب الأسرى وتوزيع الهبات على كبار الموظفين، ورسم ترتدى فيه التاج الأحمر للمملكة، وعلى الدوام تنويهات التبجيل والإعجاب المرفوعة لمقام نفرتيتي: «الأميرة الحسناء.. الرفيعة المنزلة.. سيدة الرشاقة.. صاحبة البهجة التي يشرق عليها آتون ليُضفي عليها الحظوة.. سيدة الجنوب والشمال.. نفرتيتي التي تعيش على الدوام وإلى الأبد».. الأبد الذي لم يتحقق لنفرتيتي ولا لأحد من البشر، وكانت هي التي شاركت زوجها الإيمان بوحدانية اللـه وبرحمته ورأفته وسره المكنون في كل مخلوقاته مما يتماشى مع الروح الصوفية التي سكنت ذلك الملك العظيم الذي توصل بثاقب فكره إلى معرفة إله العالم خالق الكون الواحد، وإلى الإيمان برأفته بمخلوقاته حتى المتواضع منها، فقد أبصر في رفرفة أجنحة الطير في المستنقعات نوعاً من التسبيح لخالقها، كما رأى في قفزات الأسماك في الغدير حمداً لبارئها، وكانت عقيدته الراسخة أن الإله الأوحد يناجى النبات، ويغذى الأفراخ ويشرف على فيضان النيل، وقد أسماه «أب وأم جميع مخلوقاته»، وليتضح أن أخناتون عرف لطف اللـه وحلمه وأن الجميع لديه سواسية.. ولاشك أن تلك العقلية هي التي جعلت الأثريين يعتبرون أخناتون أقدم رسول معروف في التاريخ الآدمي، وأن أناشيده لإلهه كانت ذات أثر مباشر على المزامير، وأن المزمور 104 يكاد يكون منقولا عن النشيد الكبير وليس من قبيل توارد الخواطر، أما عن كيفية وصول هذا النشيد إلى العبرانيين، فمن المحتمل أن يكون قد حُفظ في آسيا وبقى في آدابها تتناقله الأجيال حتى جاء الوقت الذي بدأ فيه العبرانيون بكتابة التوراة في القرن الثامن قبل الميلاد.. ومن كلمات النشيد قول أخناتون في تسابيحه الصوفية للإله الواحد: «يا آتون الحى.. يا بداية الحياة.. عندما تبزغ في الأفق الشرقي، تملأ كل البلاد بجمالك… أنت جميل، عظيم، متلألئ وعال فوق كل البلاد والعباد… تحيط أشعتك بالأراضي كلها التي خلقتها، وعندما تغرب في الأفق الغربي، تصبح الأرض سوداء كما لو كان حل بها الموت… فلا ترى عين عينا أخرى، ويخرج الأسد من عرينه، وجميع الزواحف تخرج لتلدغ… وعندما يصبح الصباح، يستيقظ الناس ويقفون على الأقدام، لأنك أنت الذي أيقظتهم، يرفعون أذرعهم ابتهالا عند ظهورك، وتزهر الأشجار والنباتات والطيور التي تطير من أعشاشها تفرد أجنحتها لتمدح قوتك، وتقف الحيوانات على أرجلها، وتسير السفن نحو الشمال ونحو الجنوب، وتمرق الأسماك في النهر أمامك لأن أشعتك تتغلغل في المحيط… أيها الخالق لبذرة الحياة في النساء… إنك أنت الذي يجعل من البذرة إنسانا… إنك أنت الذي يعنى بالطفل في بطن أمه… وأنت الذي يهدئه بما يوقف بكاءه.. أيها الإله الأوحد الذي لا شبيه له… ما أجمل أعمالك يا رب الأبدية… النيل الحقيقي ينبع من العالم الآخر لأجل مصر… أنت في قلبي… أنت الذي خلقت الدنيا، وخلقت الناس كما شئت أن تصورهم… إنهم يحيون عندما تشرق، ويموتون عندما تغرب، ويعيش الإنسان إذا أردت.. أنت أنت الذي خلقت الإنسان والأرض وملك الوجه القبلي والبحري.. خلقت أخناتون وزوجه العظيمة نفرتيتي.. عاشت ممتعة بالشباب دائما وإلى الأبد»..
وبينما يتوحد أخناتون ونفرتيتي في عبادة الإله الواحد آتون تلك القوة غير المرئية المختفية وراء قرص الشمس يظل أخناتون يدعو آتون: «الحب يا إلهي يملأ قلبي لمليكتي وبناتها.. أيا آتون امنح عمراً طويلا لنفرتيتي» وتتلاقي نفرتيتي معه في الدعاء له «آتون امنح الذي يحبك الحياة والحقيقة سيد الأرضين أخناتون»..
وبديهي أن تلك الطفرة الدينية والصحوة العقلية والنظرة الشاملة المتبصرة، قد صحبتها تطورات فنية أوسع نطاقاً لتغدو فترة أخناتون بمثابة الوقت الذهبي للفن الحر الذي دبت فيه الحياة، حيث الميل للحقيقة قدر المستطاع، مع ظهور المناظر الواقعية المأخوذة من الحياة اليومية مثل رسم فتيات صغيرات يتشاجرن، وزبائن ينتظرون دورهم عند الحلاق، واندساس بعض الحيوانات داخل القطيع للنجاة من مطاردة الصياد، ولا يمكن نسيان حركات النادبات الباكيات المأساوية في المواكب الجنائزية، ومن بين اللوحات الملونة النادرة من عصر العمارنة والأكثر تعبيرا عن فن تلك الفترة لوحة تصور طفلتين من بنات أخناتون عاريتين تلعبان فوق الوسائد، هذا إلى جانب استخدام اللون الصدفي للأظافر، وقد تحرر فنان الديكور بدوره في تصميمات منازل العمارنة من الداخل فحاول معالجة المناظر المستوحاة من الطبيعة بمزيد من الواقعية مثل رسمة لأدغال نبات البردى المتعانق، ورسم جموع اليمام والحمام على خلفية من أوراق الشجر، وكذلك العجول الصغيرة التي تتقافز حول الزهور.. ولم يستثن الملك أخناتون نفسه فترك للفنان الحرية في تصويره على الطبيعة بما يحمل من تشوهات جسمانية فخرج تمثاله المعروف الذي يظهر عيوبه برأسه المستطيل، وشفاهه الغليظة، وبطنه المكور، وفخذيه الضخمين الأنثويين… وكل ما فات من مظاهر التطور الفني وعظمته في فترة أخناتون يقف قزماً أمام تمثال نصفى لنفرتيتي ارتفاعه لا يزيد على نصف متر وعرضه أقل من 20 سنتيمترا مبتور الكتفين وبعين واحدة قام المثَّال المصري تحتمس ــ الذي كانت نفرتيتي تحج إلى مرسمه تنشد الهدوء وتشكو إليه من تدخل حماتها في شئونها البالغة الخصوصية ــ بتصميمه وتلوينه منذ أكثر من 28 قرناً ترتدى فيه الملكة تاجاً مخروطياً أزرق اللون إلى جانب الألوان الأخرى التي لم يزل التمثال يحتفظ بها وهي الوردي المستخدم للبشرة، والأحمر والأصفر والأخضر والأسود، والأبيض، هذا والتمثال مصنوع من الحجر الجيري في الوجه والرقبة بينما التاج فوق الرأس من الجبس لخفة وزنه ولضخامة التاج، وقد بالغ المثّال في ميل الرقبة لإحداث التوازن مع الكتلة أعلى الرأس..
وهكذا عاش أخناتون ونفرتيتي في تبات ونبات وأنجبا ست بنات وعَبَدَا معاً باقتناع وتبتل الإله الواحد آتون.. حتى.. حتى جاءتهما هادمة الاتساق والوفاق.. الحماة.. الملكة «تي».. أم أخناتون.. ومن بعدها بدأ الشقاق الذي بلغ حد الانفصال الروحي ليبقى أخناتون داخل القصر مع ابنته الكبرى «مريت آتون» مهدما محطم القدرات رغم عدم تجاوزه الخمسين.. وتذهب نفرتيتي لتعيش في ناحية بعيدة جنوب المدينة، وتكتمل حبائل الدسيسة «الحمواتية» عندما يأمر أخناتون بإزالة اسم نفرتيتي من فوق جميع جدران القصر ليوضع اسم ابنتها بدلا منه.. وكان لشدة انشغاله بالأمور الدينية والفلسفة قد ترك شئون دولته الخارجية وتقدير التبعة الملقاة على عاتقه، والظاهر أنه لم يتحقق من خطورة موقفه السياسي إلا بعد فوات الفرصة وبعدما زهدت الأقطار التابعة له في إغاثتها من الاعتداءات المتكررة عليها مثلما أصبحت ثونب «بعلبك» في خطر الوقوع بأيدي الأعداء فأرسل كبارها خطاباً مؤثرا إلى أخناتون يطلبون فيه النجدة قائلين: «إلي سيدنا ملك مصر.. من أهالي بعلبك خدمك. لعلك تكون بصحة وعافية.. نحن كلنا نسجد تحت قدميك.. مدينة ثونب تتساءل الآن قائلة: لم يجرؤ أحد من قبل أن يسلب أرضنا.. ألا فليعلم سيدنا ملك مصر أن معبودات مصر لا تزال بثونب ويمكن لجلالتك التأكد من صدق ذلك من كبار قومك.. لقد أوشكنا أن ننفصل عن مملكة سيدنا ملك مصر إذ تأخر عنا وصول الجنود والعجلات من مصر. إن المعتدى سيعاملنا بكراهية المعتدى ليعمنا الكدر كما يصيب جلالة ملك مصر الأسى.. سيفعل بنا ما يشاء ونحن في بلاد جلالة الملك سيدنا.. حينئذ يندم الملك على ذلك كثيرا. إن بعلبك تبكى يا سيدى بكاء مرا ولا من مغيث لها. لقد ثابرنا على إرسال المخاطبات لسيدنا ملك مصر مدّة عشرين سنة فلم تصل إلينا منه كلمة واحدة»… وأخذت المدن الأخرى تستغيث بفرعون مصر حتى بلغت رسائل العمارنة 337 رسالة تكشف مدى إهمال أخناتون لشئون ملكه، فقد كان يعيش في عالم آخر ولم يهتم حتى بمقابلة الرسل الذين أتوا من آسيا ليشرحوا حقيقة الأمور، وكان يعتمد على صديقه «توتو» أحد ثقاته المقربين ليجنبه المشاكل، وفي تلك الفترة أصيب النفوذ المصري بضربات قاصمة في سوريا ومدن الساحل الفينيقي وفي أعلي الفرات وفلسطين، بينما أخناتون موزعاً وقته بين الصلاة لآتون والإنصات لرجال بلاطه المغرضين، وربما جاء إهماله لشئون الحرب والقتال والدفاع عن إمبراطوريته الواسعة عائدا إلى عقيدته الراسخة في المحبة والإخاء وكراهية منه للقتل والتخريب.. وإذا ما كانت ديانة أخناتون قد سقطت من بعده، فالسبب أنها جعلت منه وحده ابن آتون المكلف بعبادته، أما بقية الخلق فكانوا يعرفون آتون بعبادتهم لابنه ورسوله أخناتون، وهذه بالذات كانت النقطة الهشة التي وقفت حائلا بين الناس وبين الاستمرار في تلك الديانة… ويرحل أخناتون ويتولى من بعده شقيقه توت عنخ آمون الذي يعلن بعد توليه العرش زواجه من الابنة الثالثة لأخناتون «عنخ إن بآتون» التي لم يزد عمرها وقتها على اثنى عشر عاماً ولم تنجب له وريثاً، ويرضخ «توت» لجميع شروط كهنة آمون، وحتى الفنون التي تمتعت بالكثير من الحرية في عهد أخناتون عادت للأسلوب القديم، ليتخشب التمثال في وقفته ملصقاً ذراعيه بجسده بينما بلغت حرية الفنان في عهد أخناتون أن يرسم فتاة منحنية عارية تمشط سطح البحيرة بأصابعها لتداعب أصداف القاع.. ويموت «توت» ولم يتجاوز العشرين بعد مؤامرة للاعتداء عليه أثناء نومه، ويدفن على وجه السرعة في قبر صغير دسوا فيه الأثاث تكديساً، ومن هنا ملأت آثاره عدة قاعات من المتحف المصري، واستغرقت عملية التحنيط سبعين يوماً ووضع جثمان صاحب الجلالة في 3 توابيت كل منها بداخل الآخر، وأغلقت التوابيت ولم ير أحد وجه الملك لمدة 33 قرنا، وكانت الأرملة الشابة الملكة قد اختنقت بوحدتها فأرسلت إلى ملك الحيثيين «شوبيليو ليوما» الذي يحكم سوريا، وصاحب النفوذ الأكبر في آسيا والمتحرش بحدود مصر رسالة تقول فيها «مات زوجي وليس لي ابن، ويقولون إن لك أبناء كثيرين، فإذا أرسلت لي واحدا منهم فإنه سيصبح زوجاً لي ولن أقبل بحال من الأحوال الزواج من أحد رعاياي لأنى أكره ذلك» وشك ملك الحيثيين في الأمر وظنه خدعة فبعث رسولا تيقن من صدق الملكة التي كتبت رسالة ثانية للملك تقول فيها: «لماذا تقول إنهم يريدون خديعتي؟ إذا كان لي ابن فهل كنت أكتب إلى أجنبي وأكشف عن مصيبتي ومصيبة بلادي؟! إنك أهنتني بقولك هذا. إن زوجي قد مات وليس لي ابن. فهل يتحتم علىّ أن أتزوج من أحد رعاياي؟! إني لم أكتب لأحد سواك».. ويرسل ملك الحيثيين ابنه الأمير «زنانزا» ليتزوج بالأرملة وليمد نفوذه إلى مصر.. ولكن قائد الجيش حور محب يأمر رجاله بقتل الأمير أثناء رحلته غير الميمونة رافضا أن تتزوج ملكته من ابن ملك الحيثيين.. وتتداول الأقاويل على مر القرون بأن نفرتيتي كانت هي صاحبة ذلك الخطاب المشين، ولكن مع شدة التدقيق والجمع والطرح والأخذ في الاعتبار ثبت أن الوقت الذي جرت فيه تلك الأحداث كان بعد موت أخناتون بما لا يقل عن عشر سنوات وبهذا ينحصر الظن والشك في الأرملة الطروب «عنخ إن بآتون» التي لم تستطع مع الوحدة صبراً فأرسلت بالبريد تطلب زوجاً تقدم له رشوة ليس لها نظير.. عرش مصر.. ومن هنا لا نتمنى أن يجدها لنا عالم الآثار البريطاني نيكولاس ديفر متوارية خلف مقبرة زوجها توت عنخ آمون في نوفمبر المقبل آملين أن تكون بطلة الاكتشاف هي نفرتيتي جميلة الجميلات التي وقع في غرامها هتلر رافضا إلحاح الملك فؤاد وسعد زغلول لإعادة تمثالها المعجزة إلى موطنه مصر رغم ثبوت سرقته على يد محضرين دوليين!!
* كاتبة مصرية.
** الأهرام.