*آسيا رحاحليه
خاص ( ثقافات )
في هذا الصباح أستجدي الذاكرة لعلّها تمدّني بأوّل خيط .
متى بالضبط بدأت معي هذه الاعاقة ؟ في أيّة مرحلة من حياتي ؟ و لماذا ؟
تبعثرت الاجابة في دروب العمر .
ربما في المرحلة الثانوية يوم أصبحت حصة التعبير الكتابي هي الجنّة ، و الجحيم حصة التعبير الشفوي . قبل ذلك كان الأمر عاديا جدا . الطفلة النجيبة المتفوّقة ، قصيرة القامة ، حادّة الذكاء تصعد المنصة دون عقد .تردّد ما تحفظه من قصائد . تمسح السّبورة . تساعد الأستاذ في تدوين الدرس .تغنّي في حفلات نهاية السنة . تقرأ التقارير الختامية في اجتماعات المدرسة . حتى أنها شاركت ، في السبعينيّات ، في تنشيط الحصة التلفزيونية ” الحديقة الساحرة ” مع المرحوم ” حديدوان ” يوم بُثّت الحصة من مدينة سدراتة .
و لكن ، في أول وقوف لها على منصّة الشعر ، منذ سنوات ، ها هي التلميذة النجيبة التي كانت تخطف أعلى العلامات في التعبير الكتابي و تطعّم نصوصها باقتباسات من الشعر و الفلسفة و الحكمة . التلميذة النجيبة التي تحفظ القصائد الطّوال ها هي تصغر ، و تصغر . تتحوّل إلى كتلة متجمّدة من الخوف .
ممَّ الخوف ؟ و لمَ الخوف ؟
لا أفهم . ليست لدي إجابة .
في ثانية من الزمن يتغيّر الحال . يتعرّق الجسد . توهن الركبتان . تشتدّ نبضات القلب . استنفار داخل الرأس . جيشٌ يستعد لمعركة . حربٌ تدور في الكواليس . لا تبدو للعيان . الأمر مثيرٌ للضحك .لأنّ لا شيء يستدعي هذا التحوّل الرهيب . خاصة و في الجمهور اليوم وجوهٌ أحبها و ألفتها و قلوبٌ أعرف مدى ما تكنّه لي من تقدير و محبة .أقترب من الميكروفون و عوضا أن أقول / و لدي الكثير الجميل الذي يمكن أن يُقال / عوضا أن أقول ، أجدني أفكّر في ” ماذا سأقول ؟ ” و هنا بالضبط . هنا . يضيع الخيط . تتداخل الصور .تتراكم المشاهد بعضها فوق بعض .تتسابق العبارات . و تفرّ الكلمات .إنّه عسر النطق .و هنا يكون ما قاله الشاعر الروماني هوراس منذ ألفي سنة صحيحا ( لا تبحث عن الكلمات ،ابحث فقط عن الحقيقة و الفكرة ،عندئذ تتدفّق الكلمات من دون أن تسعى إليها )
و رغم ذلك ، خلال لقاءاتي مع الجمهور و من تجربتي المتواضعة في الكتابة ، حدث أن أدهشت نفسي ، و تفوّقت على خجلي و ارتباكي و خرجت من مأزق الوقوف أمام الميكروفون بشكل جميل .أتذكّر قول صديقتي سامية مسيف : إننا مثل خيط المطّاط ..نجد فينا القدرة على التمدّد حين نضطر إلى ذلك .نعم . لكن في الأمر دائما صعوبة ما .لا أحد يشعر بما يعانيه المطاط أثناء التمدّد.
لا أحد سوى المطّاط !
إذا أنت محظوظ إذا كنت تملك أمرين : طلاقة الوجه و طلاقة اللّسان .
في هذا الصباح أنا عاتبة عليك يا سقراط . لماذا ” تكلّم حتى أراك ” و ليس اكتب حتى أراك ؟ لماذا و الكثيرون يتكلّمون و لا يقولون شيئا ذا قيمة و لكن الناس تراهم و لا ترى من يكتبون النفائس لأنهم يرتبكون لحظة الكلام . هذا غير عادل . غير عادل أبدا . لا أقصد نفسي فأنا قد فاتني الأمر على أيّة حال .
إنّني أشفق على أبنائنا . لا أريدهم أن يقعوا فيما وقعت فيه .
ما جدوى ما تكتبه إذا كان لا أحد سيراك إلاّ إذا تكلّمت ؟
في الجامعة لم يكن ” يراني ” أحد من أساتذتي / أو هكذا كنت أعتقد / لا أشارك في الحصة حتى و لو أملك الاجابة . لا أجلس في الصفوف الأولى .. لماذا و أنت تعشقين المراتب الأولى ؟ لا أدري . و لكن ذات مرّة حصلت على أعلى علامة في مقياس ” الأدب الانجليزي ” و استطاع ” رؤيتي ” اثنان من الأساتذة أو ثلاثة أو أكثر. كان أمرا مذهلا بدليل أنّني لم أنسه إلى اليوم .
” سواءً رضينا أم أبينا فإن الذين يُحسنون الحديث أمام الناس يعتبرهم الآخرون أكثر ذكاء و إنّ لديهم مهارات قيادية متميّزة عن غيرهم ” يقول زج زجلر.
في الدول التي تهتم بالإنسان و بالتنمية البشرية توجد مراكز للتدريب على الإلقاء و نوادي لتعليم فن و مهارة الخطابة و التأثير في الناس ، أما نحن فتلك هي آخر اهتماماتنا .المشكلة أنّ آباءنا و مدرّسينا اهتمّوا بتعليمنا الخطّ على حساب الخطاب .كان الأجدر أن يهيّئونا لهذا الزمن .. زمن الصورة و الصوت .
زمن لا يهمّ ما تقوله بقدر ما يهمّ كيف تقوله .
أيها الأولياء ..رجاءً ، علّموا أولادكم منذ الصغر الخطابة و ركوب البيان .
ما الفائدة إذا كنت تجيد ركوب الخيل و لا تتقن تركيب جملة رائعة تأسر بها القلوب و الأذهان ؟
________
*أديبة من الجزائر