عمر آدالين.. حينما يفقد الزمن سطوته




*أحمد ثامر جهاد


خاص ( ثقافات )

ماذا لو توقف عمر الإنسان عند مرحلة زمنية محددة، وبدت حيوات الآخرين من حوله سائرة في نواميسها المعتادة؟ كيف ستكون أحاسيس المرء، إذا ما أيقن انه على عتبة الخلود، وأن لا مستقبل ينتظره، فيما الماضي بات عصيا على العودة مثل طيف بعيد، هل ستبدو الحياة حينها كما لو أنها مؤبدة في حاضر مديد؟
****
يمكننا القول إن موضوعة فيلم (The Age of Adaline) للمخرج “لي تولاند كريجر” ليست جديدة، فقد سبق تناولها في أفلام عدة وإن بمعالجات مختلفة، منذ فيلم”آلة الزمن” عن رواية الكاتب “أي.ج.ويلز” وحتى فيلم “حالة بنجامين الغريبة”، مرورا بسلسلة أفلام “العودة إلى المستقبل”. إذا كان ممكنا لنا أمام الشاشة أن نغفل للحظات عن قوانين الفيزياء والطبيعة، ونتريث قليلا في إطلاق أحكامنا القطعية، سيستدعي هذا الفيلم استقبالا هادئا، يقبله على علاته، بوصفه استراحة رومانسية تنأى بنا لحين عن ضجيج أفلام العنف الهوليودية التي بلّدت أحاسيس المشاهدين وشوشت ذائقتهم.
في الغضون سنرى أن ثمة مسارين تقليديين طرحتهما السينما عبر تاريخها الطويل، في التعامل مع نسبية الزمان وكذا الأفكار والطموحات المرهونة به. وعبر تبسيطات غير علمية قد نختار: إما العودة إلى الماضي وتغيير مسار أحداث مأساوية كان يجب ان لا تقع، والتدخل في إعادة صياغتها لمنع أمر خطير سيحدث مستقبلا، أو الإبحار نحو مستقبل مجهول بهدف استشراف خباياه. في الحالتين يحتاج الفيلم إلى كتابة جيدة وطموحة تطرح مسوغات مقنعة للقيام بالرحلة المنشودة عبر الزمن. لكن الأمر الطريف في فيلم (The Age of Adaline) الذي كتبه “جى ميلز جودلوي وسلفادور باسكويتز” ابتعاده عن كلا المسارين، وعدم انشغاله كثيرا بالأسباب التي حتمت توقف عمر “آدالين” المولودة أوائل القرن العشرين، كما لم يتوسل الفيلم المؤثرات الخاصة لإقناع المشاهد بصدقية حكايته، قدر انشغاله بتمرير قصة رومانسية تنحاز للعواطف الإنسانية، إذا ما أعيد طرح التساؤل المشروع حول الرغبة في الخلود،الشباب الدائم مقابل حياة تمضي في خطها المعهود صوب نهايتها المحتومة.

معجزة آدالين
عقب انقضاء أشهر على وفاة زوجها كلارينس تتعرض آدالين بومان ولها 29 عاما، لحادث سير يؤدي إلى غرق سيارتها في شاطئ مجاور، كاد قلبها أن يتوقف عن الخفقان، لولا صاعقة برق تلامس جسدها، في مصادفة كونية ثقيلة، تعيدها إلى الحياة وتجعلها منيعة على الموت. كانت تلك الانعطافة الدرامية الأولى للفيلم التي ستغيّر مسار الأحداث بعد أن نالت آدالين(الممثلة بليك لايفلي) شبابا دائما يحلم به الكثيرون، إلا ان هذا الخلود،كما سنرى، لن يجعلها -من دون حب حقيقي- إنسانة سعيدة. 
يشي سيناريو الفيلم بحس أدبي ملحوظ، ليس فقط لأنه مقتبس عن نص قصصي جعله منحازا، إلى حد ما، لاستعارات شعرية في رسم الأحداث والشخصيات، بل لانه حاول خارج الصرامة الشكلية للصورة(كحدث) ان يلخص ويحلل مغزى المشهد وفعل الشخصية. فنراه يعول منذ بدايته على التأثير الحسي المفترض لصوت الراوي العليم الذي يسرد الحكاية من خارج الكادر، وهي حيلة أدبية من شانها إضعاف البناء الدرامي للفيلم. يٌسمع صوت الراوي من حين إلى آخر، موضحا أو معلقا أو ساردا لأهم محطات الحدث. 
في مستهل الفيلم ثمة لقطة بعيدة ترصد من علو كوكب الأرض، عالم آسر تمتزج فيه ألوان اليابسة بزرقة البحار الشاسعة، مثل أحجية كونية يمكن أن تخفي ما لا يمكن توقعه. سيفكر احدهم ان إرادة مطلقة وضعت حياة آدالين أمام اختبار مصيري. ليس ثمة شئ مؤكد حتى اللحظة. آدالين تتصل بأحد الأشخاص لتبديل بطاقتها الشخصية، تمهيدا لتغيير محل إقامتها، وهو ما درجت عليه، خشية اكتشاف سرها، بعد ان أصبحت منيعة على التغيير والنمو وانها لن تتقدم بالسن يوما آخر. تزداد مخاوفها من الناس بسبب هذا الوضع المربك، وتبدو مضطرة للانتقال من مكان إلى آخر، الأمر الذي اكسبها ثقافة واسعة وخبرة حياتية استثنائية. 
في لحظة ما يصدق حدس آدالين، حينما تتعرض للاقتياد من قبل عناصر الشرطة الفيدرالية للتأكد من هويتها. تنجح في الإفلات من قبضتهم وتتعرف في الغضون على شاب وسيم يجهد بكل السبل لإسعادها. وبعد تمنع استغرق وقتا طويلا على الشاشة، ينجح الشاب أليس (الممثل مكيل هاوسمان) في كسب ثقة آدالين، فيدعوها لاحقا إلى زيارة عائلته والتعرف عليهم. المفارقة ان الأب الكهل”الممثل هاريسون فورد”يصدم بحقيقة ان عشيقة ابنه هي ذاتها الفتاة التي أحبها قبل نحو أربعين عاما. إذا اعتبرنا تلك الواقعة هي الانعطافة الدرامية الثانية للفيلم، فلا مناص من القول انها حيلة درامية غير موفقة جعلت الإخراج متواضعا، وان كانت أسهمت في تصعيد منحى الأحداث نحو نهايتها. تهرب آدالين من هذا المأزق المعقد وتتعرض في طريق عودتها إلى حادث سير مميت آخر، إذ تحدث المعجزة ثانية (انعطافة اخيرة)، وتستعيد آدالين حياتها الطبيعية من دون خلود هذه المرة. 
الحنين إلى الماضي
ربما يرى البعض في شخصية آدالين انحيازا لزمن جميل مضى، مثّل لمعظم الأمريكيين عصرهم الذهبي، في خمسينيات القرن المنصرم تحديدا. فلم تظهر آدالين طوال أحداث الفيلم مرتدية ملابس عصرية، وإنما بقيت محافظة على أناقتها الكلاسيكية. كما ليس اعتباطيا ان تنقب آدالين وقد بلغ عمرها 107 سنة في أرشيف الماضي،تعاين شريط حياتها والآخرين، تقلب وثائق مصورة بالأبيض والأسود تعزز لديها حس الحنين إلى الماضي والشعور بالوحدة، سيما ان الزمن نسيها على ما يبدو، وان من أحبتهم يوما ما رحلوا الآن، في حين بقيت هي مؤبدة في ثبات مقلق. 
في كل الأحوال ليست آدالين مسرورة بخلودها، فمئة عام من الجمال ستكون مملة لشخص متعقل، وان تكيفت الشخصية بشكل أو بآخر مع واقع ثباتها العمري. لكن لو افترضنا ان آدالين كان لها الحق في اختيار مرحلة عمرية من سيرة حياتها، فليس مستبعدا تفضيلها عيش طفولتها ثانية. كما لن نكون متيقنين من ان آدالين ستسر بحياة شاذة تعوزها العاطفة بشكل أعقد من مجرد استمتاعها بالجلوس مع ابنتها العجوز في مفارقة غريبة. رغم ذلك وبالنظر لفكرته التي سبق تناولها برؤى مختلفة، حقق فيلم آدالين الذي بلغت كلفة إنتاجه نحو 25 مليون دولار نجاحا تجاريا يحسب لصالحه.
الحلم ضد الحقيقة
حكاية آدالين عبر صوت ساردها العليم ترتكز على ما يمكن تسميته بفرضية الارتحال السردي، الاتكاء على حدث خارق ينقل الأحداث إلى نطاق غير مسبوق. هذا الارتحال سيحكم بدوره مسارات القصة ويوسع مدياتها جماليا، وان اقتضى ذلك الالتفاف على منطق السبب والنتيجة المنتجان للمعنى. أي اننا كمشاهدين إذا ما سلمنا منذ البداية بفرضية الحدث الخارق الذي تعرضت له الشخصية لن يكون بوسعنا بعدئذ اجتراح حكم ما خارج فرضية السرد الفيلمي التي تستخدم منطقها الخاص في إزاحة الغموض والالتباس عن تناقضاتها الفرعية. وعلى الدوام يمثل هذا النوع من القصص تحديا ممكنا لظلامنا الدنيوي، ولحتمية مصائرنا ككائنات فانية منقوصة الإرادة.
مع القصص الخيالية يستجيب العقل عادة، للطبيعة المشوشة والغامضة للنسق العجائبي الذي يجعل المتلقي اشد استعدادا للتفاعل مع الحكاية الخيالية بوصفها تعبيرا حرا عن رغباته الدفينة وهي تنشد الخروج عن قوانين المنطق العلمي وحدوده. كيف لا ونحن ورثة حكايات الجدة التي طالما حلقت خرافاتها في سماء طفولتنا. في المقابل، أليست القصص الواقعية التي حفظنا مسالكها المملة عن ظهر قلب، داومت منذ قرون على رفع سقف توقعاتنا لما يمكن ان يكون؟ 
في ثنايا حكاية آدالين ثمة انزياح وجداني لأمنيات بشرية قديمة تحاول تلطيف الوجه الصلد لسطوة الزمن. لكن ان تعود آدالين في نهاية الأمر إلى سويتها البشرية، سيعني ذلك ان أوان الخروج من حلم الشاشة قد حان، فما مررنا به على مدى ساعتين تقريبا، ليس خدعة سمجة وإنما حلما إنسانيا مشروعا.أليست السينما واحة الأحلام الكبيرة.
________
*ناقد سينمائي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *