أمجد ريان
خاص ( ثقافات )
لا يزال الحديث حول الجنس، يسبب لنا صدمة أولية بمجرد وروده، وهذا ناتج عن تقاليدنا، وتربيتنا الدينية المحصنة التي لا تتفق مع قضية الإفراط في التعبير الجنسي والغرائزي، ولكن هذا لم يمنع بعض الكتابات الحديثة والفنون الحديثة أن تتعرض لقضايا من هذا النوع، أما في مرحلة ما بعد الحداثة، فقد اتسعت المسألة بشكل غير مسبوق، ومناقشة قضية الجنس بأوسع معانيها، سيكون هدف هذه الرواية، لذلك جعلها الكاتب على هيئة بوح مباشر يتكلم فيه صديقه بطل النص المريض النفسي عن نفسه، أو بوح يطرحه البطل أمام طبيبه النفسي، وعلى الرغم من نزوع النص لتفسير العالم من خلال الجنس بالدرجة الأولى، إلا أننا يمكننا أن نستخلص أهدافاً أخرى عديدة توازى هذا التوجه الأساسي، وعلى سبيل المثال يطرح هذا النص الروح المصرية، ويتعمد أن يتتبعها من خلال أدق تفاصيلها، وملامحها التي ترتبط بتراث مصر، وبحضارتها، وبتاريخها الثقافي شديد الخصوصية. ومنذ السطر الأول، ندخل إلى البيت المصري التقليدي وبخاصة في المناطق الشعبية القديمة بقيمه وأخلاقياته، وبفكر أبنائه، البيت المصري، بمجموعة خصوصياته وأخلاقياته المشهورة، وأخلاق الناس دائماً هي شكل من أشكال الوعي الإنساني، ومنظومة القيم والمبادئ التي تحرك الأشخاص يمكن أن تتطور حتى تصبح مرجعية ثقافية للشعب، متضمنة صفات البشر ونزوعاتهم وطباعهم وبرغم من أنها معان باطنية فإنها لقوتها تنتشر بين الناس وتصبح عرفاً بقوة أشبه بقوة القوانين، وتمثل نبعاً، يستقي منه الناس أساليب المعاملة ـ وأصول العلاقات التي ترضي الضمير، وتصبح بمثابة بيان للمعايير المثالية لأفكار الشعب، يهتم الناس بمراعاتها ويعطونها كل الاحترام والإعجابَ والتقديرَ . على الرغم من أن هناك توجهات فكرية وأيديولوجية تؤكد على أن هناك أزمة ضربت المجتمع المصري، وضربت منظومات قيمه الاجتماعية والأخلاقية، بفعل عوامل ومتغيرات عالمية من ناحية، ومحلية من ناحية أخرى، سببت حدوث ما يشبه المحنة، وسببت هذا التراجع الأخلاقي الذي بدأ يتغلغل في الكيان المصري في المرحلة الأخيرة، وبدأت تتفشى صور من الفوضى والعنف والعدوانية، عرفها الشارع المصري طويلاً في الفترة الأخيرة.
ويرسم الكاتب لوحات كاريكاتورية جسدية لأفراد البيت المصري، أو الأسرة المصرية، وهي دقيقة على الرغم من أنها مستخلصة من حديث بطل النص المريض نفسياً، نتعرف على الأم التقليدية مثلاً أو المرأة المصرية التقليدية، في أدق ملامحها الجسدية: (ثديا أمي كانا ثديَي أمٍ تقليدية في أواخر الأربعينيات؛ ضخمين، ومترهلين، بحلمتين كبيرتين، تشبهان نصفَي إصبعين سمينين، ويبرزان بقوة من عينين واسعتين، لونهما بني غامق.. ثديان عريضان، أقرب إلى مستطيلين يتدليان بالطول، ويبدو عليهما جمال الامتلاء المتماسك الذي أصبح ماضياً.
وهناك وصف للأب المصري في أحد نماذجه التي رسمها قلم الكاتب بجدارة على لسان بطل النص صاحب الحالة النفسية: (أبي كان يحمل المواصفات الجسمانية لمارد أفريقي باستثناء أنه كان قصيراً.. سمار، وملامح غليظة، ونظرة نارية محتقنة، شرسة، تحوِّل من يواجهها إلى فريسة مستسلمة فوراً.. رأس أصلع، وجسد ممتلئ، قوي، جلده سميك، وعضلاته متكتلة.. كان أكولاً، عاشقاً للـ(الشعراوي)، و(السادات)، و(الخطيب)، و(الكحلاوي)، و(نعيمة عاكف) و(وردة)، والبيض المسلوق.. لا تفوته ركعة، ولا ينقطع عن المسجد، أو عن قراءة المصحف كل ليلة على كنبة الصالة قبل النوم.. عنيف الملامح، والقول، والطباع.. يتكلم كأداة ضبط أخلاقي، لا تخطئ أبداً ذاكرتها في فتح الصفحة المناسبة من القرآن، والسنة لاستدعاء الاستشهاد الصحيح.. قيل إنه كان يشرب لبن الحمير وهو طفل، وقيل إنه كان يلعب ملاكمة في شبابه، لكن المؤكد أنه كان من أولئك الذين يتعاملون مع الطعام كديانة تشغل ترتيباً متقدماً في قائمة المقدسات، وأنه لم يشرب الدخان، ولا القهوة، والمؤكد أيضاً أن له أصول أفريقية ـ سودانية ربما ـ قادرة على تبرير شهوته الجنسية المشتعلة دائماً، التي أورثها لي: (تعرف يا دكتور.. لما كنت أراه بالفانلة الحمّالات، مع المواصفات التي قلتها لحضرتك بالإضافة إلى شعر صدره الكثيف، الخشن، ويا سلام مع العرق، ورائحته كنت تحس فعلاً أنه واحد من السود ذوي الأعضاء الضخمة).
ويتواصل رسم شخصية الأب المصري، فيشبهه بالممثل (عدلي كاسب) في فيلم (المراهقات) حينما كان جالساً مثل الوحش، بالفانلة الحمّالات على السُّفرة، ويأكل، ويسكر، ويزعق، ويقفّش في (عزيزة حلمي)، ثم نهض ليفترس ابنه (جلال عيسى)، ويتركه محطماً، ليعود بعد ذلك متطوحاً، ولاهثاً إلى السفرة ليُكمل طعامه وسكره، إنها صورة شبيهة بالأب بشكل أو بآخر لكن أبي بطل النص لم يكن يسكر، ولم يكن يقفّش في الأم أمام الأولاد، وكانت له اهتمام آخر هو الحرص الشديد على الصلاة، فيجبر ابنه – بطل النص – على الصلاة معه جماعة داخل حجرته، ليشبع رغبته القديمة حينما كان يحلم أن يكون إمام جامع، كان يحافظ على السنة، والفرض، والتسبيح، والدعاء بصوته الثقيل، الخانق، الممتزج برائحة قدميه الكريهة والتفتيش الدائم الدقيق على ابنه هل أدى الصلاة أم لم يؤدها؟
(جزء من دراسة بعنوان “الجنسانية وحقول المعرفة في الرواية” ـ رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” لـ “ممدوح رزق” نموذجاً) ـ تصدر قريباً.