فيلم ذيب الأردني (المرشح للأوسكار)



مهند النابلسي*

خاص ( ثقافات )

“ويسترن بدوي لافت وواقعية فلوكلورية ومشاهد أخاذة”! 
الفيلم رائع، ويتضمن مشاهد أخاذة للصحراء الأردنية ووادي رم… وقد تأثر المخرج كثيراً بسيرجو ليوني بتحفته الخالدة “من أجل حفنة دولارات” وخاصة بالمشاهد البرية والنار الموقدة… والتصوير المقرب للذباب الذي يغطي الجثث ولا يعفي الأحياء والخبز الجاف ويكاد يصبح “ويسترن عربي صحراوي” فريداً بموسيقى معبرة، كذلك أبدع المخرج (ناجي أبو نوار) بتصوير لقطات معبرة قريبة ونادرة للإبل والجمال بحالاتها وحركاتها المختلفة وطريقة أكلها، مصدرة الأصوات وكأنها تؤدي دوراً وتتماهى مع الأحداث والرجال… 
كما تأثر بوضوح بمنهجية ديفيد لين المميزة بتحفته الخالدة “لورنس العرب”، واقتبس لقطات منها تقربهم من الإنجليزي ومساعدتهم له بحمل المرآة أثناء الحلاقة، والتركيز المبالغ فيه على جرأة الإنجليزي عندما يعلمون بأنهم ذبحوا رجالهم وألقوهم ببئر الماء “الروماني”، والجمل المعبرة التي تنساب بتلقائية وعصبية من فم الإنجليزي قبل مقتله في كمين مدبر: أتعرفون ما معنى دولة… وأنتم لا تفهمون معنى “المهمات”… إنها أمور تقاتل من أجلها الشعوب! هكذا يستدرك هذا الإنجليزي معاني الوطنية والشجاعة وإنجاز المهمات التي لا يحفل بها البدو في ذلك الزمان (العقد الثاني من القرن العشرين)، حيث تركز همومهم على الجمال والكلأ والمراعي وآبار المياه والغزو المتبادل وإرواء العطش الصحراوي القاتل ولا شيء آخر، ويبدو وكأن هذا الإنجليزي الغريب هو الذي يعلمهم الوطنية ضمن التنافس الاستعماري الضاري بين الأتراك والعثمانيين قبيل تفكك الإمبراطورية العثمانية! وإن كان تمثيل الإنجليزي (جاك فوكس) ضعيفاً وغامضاً مقارنة مع الأداء الرائع للشخصيات الرئيسية (مرجي عودة، حسين سلامة وحسن مطلق)، باقي الكومبارس “البدو” كانوا بحاجة حقاً لتدريب أكثر، أبدع الفتى ذيب بأداء دوره وكان مقنعاً وتفوق على أداء شقيقه المفترض حسين (وهما أبناء الشيخ الراحل “أبو محمود” المعروف بجرأته وشجاعته حسب الرواية: “فالذيب لا يلد إلا ذيباً”!)، كذلك تفوق قاطع الطريق البدوي بدوره الطويل بالجزء الأخير للشريط، وكذلك الممثل الذي أدى دور قائد الحامية التركية، يؤخذ على الفيلم بطء الإيقاع وضعف الانسياب بالسيناريو، وانغماسه المفرط والمبالغ فيه بالتفاصيل، مما أحدث تشتتاً بالتركيز وأضعف التشويق، وإن كان تفوق بالمقابل بواقعية المشاهد الصحراوية وإظهار قسوة الظروف، بحيث شعرنا وكأنا أصبحنا جزءاً من الأحداث، وأدخلنا لحياة البدو والصحراء وتقاليد إكرام الضيف والذبيحة وأكل المنسف، وبأسلوب واقعي جذاب… كما أن العنف كان ضمن السياق وليس مجانياً وبلا حذلقات ومؤثرات، فحتى في أثناء هجوم قطاع الطرق عليهم، لم تسد رغبة القتل المجاني العابث كما نشاهد عادة بأفلام الويسترن، فالكاوبوي البدوي لا يقتل الا لهدف: سلموا تسلموا، فنحن نريد إبلكما! المشاهد الأخيرة بالفيلم كانت رائعة وفكت ألغاز القصة بإيجاز سينمائي بليغ، فبعد أن ينجو ذيب من القتل ويخرج بحذر من بئر الماء الذي اختبأ داخله (كما نصحه أخوه قبل مقتله: إذا حدث لي شيء، عزز نفسك قرب الماء!)، نراه يهيم على وجهه حتى يلقى فارساً ملقىً على حصان بلقطة سينمائية مدهشة، ليتبين أنه آخر الناجين من العصابة التي هاجمتهم، ويخاف أن يقتله، فيما يتمكن قاطع الطريق من أخذ المسدس، ويحذره “لأنك أرنب مالك حيلة، سأترك الوحوش لتأكلك”… ثم يلاطفه قائلاً لا تخوني، ويطلب منه “الأخوة”، وأن يخرج الطلقة من ساقه، وأن يطهر الجرح بنار “الشبرية الحمراء”، ثم يغمى عليه كما بأفلام الويسترن، ويبدو أنهما قد تصادقا بوحدة المصير وبؤس المعاناة، فنراه يشرح لذيب لاحقاً مغزى سكة الحديد ويسميها: درب حمار… وعندما يواجه بثوار عرب ويسألونه إن كان شاهد الإنجليزي، يسألهم باستهبال: ما هو الإنجليزي! وينصحونه بتجنب سكة الحديد “لأن الليلة عندنا سالفة مع العثمانيين”! كما يتحدث لذيب “الذي لم يشاهد البحر يوماً” عن خبراته بالسفر والترحال (كدليل حجاج سابق): أنا رأيت اثنين البحر الأحمر وبحر فلسطين، كما رحت للقدس والشام وبغداد والمدينة المنورة… ثم يندب الحظ والقدر والظروف: هم أوقفونا… فقد كنا ندل الحجاج، ثم جاء القطار الحديدي، فأصبحنا بغمامة سوداء، بلا رزق ولا تجارة، ولا أخ يرزق أخاه! وكأنه يبرر تحوله “لقاطع طريق” كوسيلة للرزق والحياة… ويتذكر ذيب بمرارة مقولة شقيقه المقتول: القوي بياكل الضعيف… وبالمشاهد الأخيرة نرى الجثث ملقاة حول السكة الحديد وبمدخل الحامية التركية، ونراه يدخل بثقة الحامية فيما يطلب من ذيب أن يبقى مع الجمل خارجاً، ولكن الفتى العنيد الجريء لا يرضخ فيدخل خلسة لنشاهد الملازم التركي ينهي حلاقته لذقنه، ثم يسمح لقاطع الطريق بعرض بضاعته التي تتمثل بمقتنيات الإنجليزي من ساعة وولاعة وأهمها صندوق غامض كان ذيب يحاول دوماً معرفة سره بالرغم من حرص الإنجليزي الشديد عليه، ليتبين أنه عبارة عن جهاز تفجير، وبعطي التركي النقود لقاطع الطريق، فيما يرفض ذيب قطعة نقدية…وفيما نسمع هدير القطار على سكة الحديد يخرج “ذيب” حانقاً متربصاً لقاطع الطريق ويرديه قتيلاً بمسدس الإنجليزي الذي صادره، وقد شد على نفسه برباطة جأش لا تناسب عمره، وفيما نشاهد الضابط وجنود الحامية يوجهون السلاح باتجاهه، نسمعه يبرر فعلته المفاجأة: “لقد قتل شقيقي حسين”، فيدعه الملازم ليعود راكباً الجمل لدياره… هذه المشاهد تحديداً تم إخراجها بنفس تشويقي متسارع وكأنها تعوض عن بطء الإيقاع والتشتت المشهدي طوال أحداث الفيلم. واكب الفيلم موسيقى تصويرية معبرة وذات دلالة وتحوي نفساً فلوكلورياً جذاباً، كما يستهل الفيلم بأبيات من الشعر البدوي المعبر:…يغوص البحر الأحمر، فلا يلحق مداه، والبحر يا ذيب، لا يخيب له رجاه… كلهم ما يتعقبونك والمنايا حاصلة 

ناقد وباحث سينمائي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *