**د . يوسف أحمد إسماعيل
خاص ( ثقافات )
“عشب الليالي ” للروائي الفرنسي “باتريك موديانو” الحائز على جائزة نوبل للآداب 2014 تثير الرغبة لدى متلقي الرواية في البحث عن إجابة على السؤالين الآتيين ؛ الأول : ماذا يريد السارد النصي من سرده ، إن كان متماهياً بالمؤلف أو شخصية روائية، ترتبط حدود وجودها بالمتخيّل السردي فقط ؟ والثاني كيف يقول ما يريده؟
وبين تفاصيل الإجابة عن السؤالين، تتشكل، في تجربة التلقي، المسافة الجمالية التي يقدمها النص الروائي، بوصفه جنساً سردياً، تتحدّد هويته الفنية في تشكيلات العلاقة وماهيتها بين السرد والتلقي.
في الإجابة عن السؤال الأول يبقى تمدد دلالة المطروح في النص السردي، بشكل عام، مشروعاً باعتبار وجهة القراءة، وتوجيه النص نحو بؤرة محدَّدة من قِبل القارئ ونوعيّته؛ ولكنّ ذلك يفتح النص، كما ذكرنا، على تمدّد الدلالة وليس على ضياع البوصلة، أو الذهاب إلى الاستدعاء الحر. من هذا التوجه يمكن أن نقول: إنّ الرواية لا تبحث في السيرة الذاتية، كما قد يوحي التأمل في المذكرة السوداء؛ ففي السيرة الذاتية، تتمدد خيوط متوازية في السرد، وإن أخذت شكلا تعاقبياً في الزمن، لتعلن عن الوعي الفردي والجمعي للمروي عنه ، من خلال صور ومواقف واشتباكات ، قد تكون متشتتة ، ولكنها تلتصق بخيط خفي داخل السرد ؛ هو الشخصية المتخيَّلة في الرواية . ولا تطرح ” عشب الليالي ” التأثّيرات الثقافية والسياسية والاقتصادية أيضا التي خلّفتها الحرب العالمية الثانية على باريس، كما رأى البعض( 1)؛ فالرواية لم يحقق فيها السرد شروط التفاعل بين الشخصيات ، بما يضمن تحقق ملامح متباينة أو متجانسة ، عبر تطور درامي ، قائم على الصراع بين الرؤى والأفكار ، أو بين المصالح المتضاربة ، عبر تغيّر الزمن وتبدله بين عقد وآخر ، على الرغم من حضوره الكثيف في الرواية . ولا تتناول، أيضا، بالتحليل حل لغز اختفاء المهدي بن بركة، كما قيل أيضا(2)، وإن كانت ملامح العمل الأمني مهيمنة على المذكرة السوداء، التي تشيد بناء النص على فعل الكتابة بكامله، غير أنّ تضافر ملامح العمل الأمني، مع حضور البعد المغربي ـ مثل ولادة ” داني ” في الدار البيضاء، كما ادّعت، وعلاقة بعض شخصيات الرواية بالسفارة المغربية في فرنسا، و”أغاموري” المغربي، ورجل الأعمال صاحب الفندق السياحي في المغرب .. ومع الإشارة المؤوَّلة لسنة اختفاء المهدي بن بركة 1965 ثم باريس، حيث موطن السرد في الرواية، وإقامة المهدي بن بركة قبل اختفائه . يمكن القول: إن اختفاء هذا المعارض السياسي أو ذاك لم يكن غير مادة تاريخية يتكئ عليها وعي الروائي ، ويدمجه في المتخيّل السردي ؛ لإشادة بناء كليّ الدلالة، يربط بين الخاص والعام ، وبين التاريخي والفني التخييلي ؛ فالفن يأخذ من التاريخي جوهره الفاعل، وليس مواصفاته الذاتية ؛ بمعنى أن باتريك موديانو أخذ من قضية اختفاء المهدي بن بركة وأمثاله ـ إذا أخذنا بالإشارات السابقة ـ في القرن الماضي فعلا يسم المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية ، بغض النظر عن الشخصية التاريخية للمهدي بن بركة؛ المناضل المغربي المعروف . والجوهري في قضية المهدي وأمثاله، ليس الحدث التاريخي، والشخصية الواقعية بالنسبة لـ “باتريك”، وإنما المرحلة السوداء، وقضايا حقوق الإنسان، والعيش بأمان في مدينة النور، التي تحّولت إلى يباب يلف المكان والزمان. وصور ذلك في الرواية تهيمن على اللغة والروح والجدران والحب؛ فكل الأماكن التي يذكرها الراوي أو يدخلها أو يلتقي فيها داني وجون هي أماكن لا وجود للجمال فيها، بل كئيبة وباردة، وتساعد في تشكيل الشعور المريب المهيمن على الرواية، حيث يكون ” الهدوء عميقا “( ص92) والأزقة رمادية (ص58) والسوق معتماً (ص64) وواجهة الكنيسة مظلمة (ص92) ، والليل يطبق بجسمه الغليظ ( ص99) واليباب سيد الأرض ص(81 )
يقول الراوي ـ ربما إحاطة منه بكل ترددنا ذاك ـ عن بحثه في المذكرة السوداء (أكتب هذه الصفحات لأعثر على ممرات هروب وأفرّ عبر فجوات الزمن) (ص83) إن الفرار والهروب عبر فجوات الزمن من الراهن إلى ماض انقضى يقتضي وجود ذاكرة، تراكمت فيها شتات ونتف ومواقف وتجارب، وهذا بدوره يقتضي عمرا آخر مرّ، نهرب إليه من عمرنا الراهن.
يمكن القول إذن، ومن خلال فعل الهروب المختلف عن فعل تصفح الماضي المرتبط أكثر بالسيرة الذاتية، نحن أمام محاولة متأخرة لفهم ما جرى في أمر ما في حياتنا الخاصة أو العامة. وهذا ما كان عليه حال الشخصية المستذكرة في ” عشب الليالي” ذهب في الماضي للبحث عن فهم للغامض فيه ، من خلال صديقته “داني” ، الغامضة ، منذ الكلمة الأولى الكاذبة ” ولدتُ في الدار البيضاء ” ثم ذكْر أماكن السكن والإقامة المتنقلة ، ثم حديث أصدقائها المشبوهين بعلاقاتهم السرية، وانتماءاتهم الخارجية، ثم أمر اختفائها المفاجئ وسجنها الطويل ، وفي آخر المطاف تعدد أسمائها وإقامتها في الحي الجامعي لجناح الولايات المتحدة ، وهي ليست طالبة في الجامعة، وليست أمريكية ..إن ذلك كله يستدعي العودة للحفر فيه ؛ لإعادة فهمه ، وخلق حالة من التوازن لدى الراوي في “عشب الليالي ” .
إنّ حلّ الشفرة المتعلقة بصديقته “داني”، كشف له رطوبة الكهف الذي تعيش فيه باريس بعد الحرب، في ستينات القرن الماضي. هو لم يكن يبحث عن ذلك، ولكن البحث عن ضالتنا تقتضي منا الحركة الدؤوبة نفسياً أو جسديا، وهذا ما كان يعيش فيه “جون” . ولذلك فإن فضاء الرواية هو فضاء باريس المعتمة، وشوارعها الخالية، وعماراتها المهدمة ، وحاناتها الباردة ، ومقاهيها الفقيرة . فقد كانت الريبة تسير معه وداني في الشوارع، وكانت البرودة سيدة الوقت، وكان الغموض يلف حوارهما الوديّ؛ إذ يتحاشى هو سؤالها، وتتجنب هي بقصد التصريحَ له بما لا تريد. وكانت الصورة بينهما، وفق ذلك ؛ هو كالمرتاب المأخوذ دون قدرة على المقاومة أو المراجعة أو الإدانة ، وهي المتخفية الواثقة بهدفها مادامت تتقن حمل الأوراق المزيفة ، وتدرك فجوة المسافة بين ما تُظهر وما تبطن، ويمكن تلخيص تلك الصورة في طريقة دخولها، برفقته، شقتها السابقة (صعدنا زقاق لاكونفونسيون . كانت ترغب بقوة في أن تدلني على المبنى حيث كانت تقيم … حين صرنا بإذاء المبنى أخبرتني ” سأريكَ الشقة … لازلتُ أحتفظ بالمفتاح “… ألقتْ نظرة على النافذة المظلمة للغرفة الخاصة بالبواب ” دائما ما تكون الحارسة غائبة في هذه الساعة، لكن لا تحدثْ أي ضوضاء على السلالم ” لم تضغط على مفتاح ضوء السلالم ,, فتحت الباب في الظلمة ثم أوصدته دون أن تحدث أي صوت .. حذرتني من الآن فصاعدا علينا أن نتحدث بهدوء … خشيتُ فجأة من سماع صوت باب الشقة ينفتح وأن يباغتنا الشخص الذي يقيم هنا ..كانت تفتح أدراج الطاولات …وتفتشها في نفس الآن كانت تسحب بعض الأوراق وتضعها في جيب معطفها .. لا شك أنها كانت تعرف الشخص الذي يقيم هنا مادام أن مفتاح الشقة لم يتغير … بعد أن فتحت باب البيت ، قالت لي ” لا بد أن الحارسة قد عادت ، علينا أن نمرّ بأقصى سرعة ممكنة أمام غرفتها “) … في ركن قصي من المقهى المقفر جلسا للاستراحة من السلالم والتوتر الذي أصابهما ، بدا عليها الندم لأنها لم تأت ببعض حاجاتها الأخرى ، فقال لها : يمكن أن أنوب عنك في ذلك ، وفي وضح النهار أطرقُ الباب ، وأطلبُ من الساكن الجديد نيابة عنك أخذ حاجاتك ( أخبرتني بصوت هادئ جدا ” لكن لا ، هذا مستحيل عليهم أن يظنوا بأنني متّ ) ( ص 47 ـ 60)
إن غموض “داني”، وشبهة أصدقائها، وجفوة المدينة الهاربة إلى اليباب، وسطوة المحقق السري ” لانغلي ” الذي كان يراقب كل ذلك، شكّل ذروة تسجيل رؤوس أقلام عابرة في المذكرة السوداء التي كانت مفتاح الولوج إلى الماضي ؛ لإعادة فهمه وتفسيره ، ثم إدانته من رغبة قابعة في النفس ؛ هي الرغبة في النور أو عودة النور إلى باريس؛ مدينة النور والشمس والحريات والأمن والسلام.
فالرواية، إذن، وفق ذلك، إدانة صامتة وخاصة يوجهها باتريك للحرب التي تحوّل الحياة إلى موت، والنور إلى العتمة، والحرية إلى الاعتقال، والحب إلى توجس وخوف وقلق، ومدينة النور إلى أرض يباب.
في الإجابة عن السؤال الثاني: كيف يقول ما يريده؟ لابد من التوضيح أن العودة في الذاكرة إلى أقصاها قد تكون طوعية استرخائية استذكارية ممتعة، وواضحة المعالم والتوجهات والرؤى. وهنا نحن في إطار السيرة الذاتية، أو تكون عودة قهرية، العائد إليها هارب من الراهن؛ لعدم قدرته على الفعل والتفاعل مع محيطه الآني. وهنا العودة القهرية استلابية ، ليس لفراغ الراهن فحسب بل للضغط الذي تمارسه المذكرة السوداء ، بما فيها من يباب ، أو نتف مرهقة من الوجع أو الحيرة أو الغموض ، كما هي الألغاز التي لم نستطع أن نجد لها حلولا في حياتنا الماضية ؛ ولذلك تُختزل العودة بتفاصيل حدث ما، بقي مشوشا أو غامضا أو مدهشا . وهنا تكون العودة عمودية تحفر في التفاصيل الصغيرة جدا، وتتبع أسلوبا متداخلا من الوصف إلى التعليق إلى المونولوج الداخلي إلى تغيّر ضمير المخاطب من الأنا إلى الآخر، وذلك على عكس السيرة الذاتية في السرد؛ إذ العودة أفقية، يسير السرد فيها بيسر، دون تفاصيل مرهقة أو أسلوب مشتت ، يجمع صورا متعددة للغة .
” باتريك موديانو” في ” عشب الليالي ” يحفر في مذكرته السوداء، يبحث في تفاصيل غريبة عنه وعن شوارع باريس ومقاهيها وجدرانها، يلملم ما تبعثر منه في الزمن الماضي؛ ليعيد تشكيل مخيلته السردية، لعله يصل إلى فهم ما حدث ولماذا. هو لا يكتب سيرة روائية؛ ففي السيرة يعرف الراوي ما حدث ولماذا؛ ولذلك لا يطرح أسئلة، بل يقدم منظومة معرفية شاملة، من خلال استعراض ماضيه بشكل متعاقب. في “عشب الليالي” ندخل مع السارد كهف باريس، فتنتابنا الحيرة من الغموض الذي يلف الماضي المستذكَر، ونمرّ بشوارع المدينة وأزقتها ومقاهيها وحاناتها وساحاتها وكثير من مسارحها وعماراتها دون أن نلتقي بسكانها وازدحامها وصخبها . نمرّ بمدينة مهجورة باردة ومظلمة؛ إذا جلسنا مع الراوي في مقهى فلا نجلس إلا في مكان قصي فيه، وإذا دخلنا الحانة فلا نجد سوانا، وإذا استرحنا في ساحة فلا نجد من مناظر غير بنايات تهدمت ومزابل للقطط مكان الساحات العامة. تلفّنا الأسئلة الاستنكارية والريبة من الماشي خلفنا ومن الضوء المنبعث من بعيد ، إذن، نحن في أرض اليباب .
بعد مرور عشرين سنة من حياته، ” جون ” يستلم من “لانغلي” ، المحقق السري الذي كان يلاحق الجميع ، ملفه ؛ وفيه توضيحات ما جرى في الماضي ، فيتساءل ( يا له من إحساس غريب أن تجد طريقك كل مرة إلى توضيحات بعد مرور عشرين سنة حول أشخاص كنت قد التقيت بهم في الماضي … ستفكك في الأخير بفضل شيفرة سرية كل ما حييته مسربلا في الغموض ، دون أن تستوعبه تماما … رحلة على متن سيارة ، الليل بجسمه الغليظ ، كل الأضواء مطفأة ، … بعد مرور عشرين سنة تسير في الطريق ذاته في وضح النهار ، وترى في الأخير كل تفاصيل المشهد. لكن ما الفائدة من ذلك؟ لقد فات الأوان كثيرا، لم يعد هناك أي شخص .” أندري فالفي “….مرّ بي الكلاب في ” بورشفيل ” . ” مسير كارول بيتش ” … مطعم لاباسي ..
أخبرتني: ” علينا العودة إلى هذا المكان “
عدنا مرات عديدة. لم تكن الصالة فارغة كما في المساء الأول. لكن كان هناك حول الموائد زبائن غرباء. كنت أتساءل إذا ما كنوا من سكان الحي. كان العديد منهم يتحلق حول المشرب ويتحدث إلى المدعو “أندري فالفي”. تمت الإشارة إلى بعضهم في ملف ” لانغلي “. أسماء، أسماء عادية سأنقلها هنا، بكل عشوائية، لكنني أجبن عن ذلك الآن، سأقوم بذلك لاحقا، من باب تبرئة الذمة. فنحن لا ندري أي شيء، يجب دائما إرسال إشارات. كان شيء ما يحجب فلول النور، كما لو أن المصابيح الضوئية كانت تفتقر إلى الطاقة اللازمة. بعد أن دونت هذه الملاحظات، ثمة شك يساورني، هذا الضوء هو الضوء ذاته الذي ينبعث في الشقة الموجودة في شارع “فليكس فور” حيث كانت داني قد قادتني ذات مساء … لكن أحيانا يداخلني إدراك حدسي، البارحة كنت بمفردي في الزقاق وزال حجاب، لم يعد هناك ماض، لم يعد هناك حاضر. توقف الزمن.)
في المقطع الذي اقتبسناه من الرواية، يتداخل الزمن بين الماضي والحاضر، أو أنه يتوقف كما يقول الراوي. ومن هذا التداخل تبدو قدرة باترك على السرد، فإذا كان الحدث في الرواية ـ إذا اعتبرنا النبش في الذاكرة يمثل حدثا ـ قائم على الهروب نحو الماضي لفهمه، فإن وسيلة الاستنكار هي الأسئلة المحفّزة وأساليب التعجب، والانتقال من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي، ومن الخطاب المباشر إلى الغائب، وبعد ذلك إلى الحديث الذاتي الداخلي الـتأملي، ثم إلى الاستنتاج أو الحكمة عبر إشارات نصية، قد تكون واضحة، وقد تكون غامضة. وبذلك يصبح الأسلوب المتداخل هو عامل تشويش على الذاكرة التي يبحث الراوي عنها في ملف ” لانغلي ” لتفكيك شيفرتها .
إن هذا التداخل في أسلوب السرد لدى “باتريك” يمثل خطورة على النص في التلقي؛ فمن جهة قد يدفع القارئ العادي إلى إهمال النص؛ فهو لا يتمثل أسلوب الرواية البوليسية، ولا تتضح رؤاه بشكل يقبض فيه على تلابيب القارئ. وهو من جهة ثانية يدفع القارئ المهتم بالسرد لمعرفة خبايا النص، فحسّه الثقافي يلتقط إشارات محفّزة للفهم، لانتباهه لتداخل أسلوب السرد في الرواية ووظيفته الدلالية. وبهذا المنحى تصبح الإجابة عن السؤال: كيف يقول باتريك ما يريده؟ مرتبطة بتفكيك شفرة التداخلات التي يركّبها باتريك في طريقة التعبير عن المشوش في ذاكرته، وعن الغامض في الحدث الماضي، وعن المبهم في تفاصيل لم توضحها الشخصيات التي تجاورت في النص، وعن كيفية التحول في السرد من الماضي إلى الحاضر، ومن الاستفهام إلى الاستنكار، ومن الدهشة إلى التقرير، ومن القدرة على الولوج إلى الطريقة التي تعبر بها الشخصية الروائية عن قلقها الداخلي وحاضرها المرتبط بالماضي، كل ذلك الارتباط.
وتتحلل شفرة “باتريك” الأسلوبية مرة أخرى عبر تفكيك تراكمها ، حين تتداخل الرؤى في نصوصه ،ويلتقطها القارئ من خلال تجربته المعرفية بأدبه ؛ ففي رواية باتريك السابقة لعشب الليالي ” الأفق ” تدخل الذاكرة بدفترها الأسود حيز السرد منذ الجملة الأولى في الرواية ( منذ زمن ليس بالبعيد أخذ بوسمان يتأمل فترات من شبابه ، فترات منعزلة ، حادة المفاصل ) ( الأفق ص 5 ) هي ذات المذكرة السوداء في “عشب الليالي” ، وهي أيضا محاولة لفهم ما جرى في الماضي ، بل إن نقاط التقاطع جميعها تشير إلى باتريك الأسلوب والمحفزات ، ويمكن إجمالها بما يلي :
النبش في الذاكرة وفي نتف محددة، التجول في الشوارع، سوداوية الجو واللغة والمفردات، المذكِّرة، الهوس في التفاصيل دون البحث عن تطورت درامية .
النصّان يقومان على مبدأ السرد والاستدعاء الحر ، المذكرة السوداء والدفتر الأسود، كتابة الرواية ،غموض في الشخصيات وأسماء مستعارة، قلق الشخصية الرئيسة ، البحث عن الوضوح والإجابات …
وفق ذلك التداخل في السرد كيف يحقق “باتريك مودانيو” المسافة الجمالية في سرده وفي “عشب الليالي” تحديدا ؟
في رصد التقاطعات المشتركة السابقة بين رواية “عشب الليالي” وسابقتها ” الأفق ” قد يقف المتلقي حائرا أمام نص “عشب الليالي” لأنه سيصاب بما كان يشعر به “باتريك” في الرواية ؛ حيث يختلط الحلم بالواقع ، والماضي بالحاضر، وسيشعر المتلقي أنه قد قرأ الرواية سابقا ؛ فهو يفتش في تفاصيل المذكرة السوداء ذاتها وبذات التقنية الأسلوبية . وهذا هو خطر آخر على سرد “باتريك” ؛ فلو وقف القارئ على ذلك ، أو لو أنه قرأ ” عشب الليالي ” بفترة قصيرة بعد ” الأفق ” لتجاوزها قبل أن تستحوذ عليه ؛ فربما توهّم أنه يعيد قراءة الرواية بنسخة معدلة . غير أن ذلك المنحى عند “باتريك” في السرد الروائي لا يرتبط بهذه الرواية أو تلك وإنما بالماضي المرهق للشخصية الساردة في روايتيه، فهي في الروايتين تبحث عن الحرية في التعبير والحب والحياة، والطريق إلى ذلك كان في إدانة المحيط الغامض والمتوجس وأسبابه. دون التطرق إليه بشكل مباشر، وإنما من خلال رصد انعكاسه على الحياة الخاصة، حيث يصاب المرء فيه بالقلق وعدم وضوح الرؤية؛ مما يبدو له أنه عاش حياتين؛ واحدة لم يفهم تفاصيلها وأخرى يعيشها لكي يفهم ماذا حصل في الأولى. وحيث يكون هذا الخلط بين الشعورين، تجاه النص، يكون التلقي ناجحا على مستوى السرد؛ لأن الصراع حاصل بين تكرار التجربة أسلوبيا وتكرار الخديعة الروائية ذاتها، دون قدرة على التملّص منها، بسبب إغواء الكتابة لفعل القراءة .
وتكون فكرة الصراع تلك ـ تكرار التجربة الروائية وتكرار الخديعة ـ تعويضا فنيا عن الصراع الظاهر في السرد الروائي والدرامي، الذي يشدّ ـ عادة ـ المتلقي إلى النص. ففي رواية “عشب الليالي ” لا يبحث السارد عن حلول لعُقدٍ تناثرت في نسيج النص، أو حلّ لصراعات قامت في جسد الرواية. وعلى الرغم من خلوّ النص من ذلك، فإن خيطا خفيا يلفّ حريره الدافئ على مخيلة المتلقي؛ ليعمل مع السارد على إكمال مخيلته السردية؛ وكأنه تماهى معه في البحث والسؤال والتعجب، حيث تبدأ لذة البحث عن الفهم واكتشاف تفاصيل لم تتضح في الحياة الأولى. ووفق ذلك، فإن السارد يوقع المتلقي في شبكته السردية، ويخضعه لحفرياته الصغيرة في المذكرة السوداء، حيث تبدأ متعة التلقي الجمالية بالتعرف على ماهية الصورة بتفاصيلها، تلك التفاصيل المريبة وأجوائها الرطبة، حيث كل شيء ينضح بالبرد والغربة والوحدة والخوف والقلق.
إن ذلك الاستحواذ لا يسنده بشكل قوي، كما قد يُتوقع، غموض التصريحات أو العلاقات أو الرؤى التي تحيط بالشخصية المركزية، ظاهريا، “داني”. فالسارد على الرغم من محاولته إيهام المتلقي بأنه يبحث عن فهم الملابسات التي أحاطت بـ “داني” غير أنّ المتلقي يدرك منذ الصفحات الأولى أن “داني” محاطة بغموض ، تتضح لديه أبعاده من خلال إشارات كثيرة في النص ؛ ولذلك هو لا يتوقع شيئا مفاجئا في نهاية الرواية بالنسبة لـ “داني” أو غيرها من الشخصيات الروائية . كما أنه يدرك أيضا أن الشخصية المركزية في عمق السرد ليست “داني” وإنما المذكرة السوداء التي خلقت الأزمنة في لاوعي السارد، وأحالت السرد إلى فعل إدانة لكل ما هو قبيح ؛ ولذلك يعيش المتلقي مع السرد متعة جمالية مرتبطة بالتفاصيل المريبة ذاتها ، والشوارع المعتمة التي يتجول فيها برفقة “داني” و”جون” ، والحانات الفارغة من زبائنها وأضوائها الخافتة … وهنا يكون السرد هو حامل عناصر الاستحواذ وليس كشف المبهم، أو الوصول إلى حلول لعقد، أو نهاية لأزمة، أو توضيح لمسيرة غامضة لشخصيات الرواية .
فالغموض المهيمن على شخصيات الرواية لم يُفعّل ليكون حافزا مهمّاً في السرد ، كما هو شأن الرواية البوليسية ، وإن ذكّرنا بها ، أو موظفا للاستحواذ على المتلقي ، وإنما كان الغموض جزءا من صورة كلية لعدم فهم ماذا حصل في الماضي ، ولماذا حصل؟ حتى فُقِد الأمن وخسر المواطن في باريس حقه في الحب والحياة والعيش في مدينة النور بدل العيش في أرض اليباب.
بذلك تكون العلاقة بين المتلقي والسرد متعبة، وليست مسيرة استرخائية أو فضولية ولا يمكن ضبط خيوطها، كما هي العادة في قراءة العمل الروائي، للوصول إلى خيوط متباينة، أو متوازية في البناء الروائي، أو الخط الدرامي. والسبب في ذلك أن علاقة التشارك، التي تمت بين المتلقي والسرد، بنيت على متعةٍ توفرُها المسافة الجمالية الناشئة من تبدل التركيب الأسلوبي في السرد، بشكل مستمر، ومن فكِّ شفرته للوصول إلى دلالته المباشرة والإيحائية لتلقي الصورة الكلية للعمل الروائي.
إن التقاط الثيمة الكلية للنص، هو جوهر فعل القراءة. وهنا يكون النص السردي أمام خطر امتحانه، للتفريق بين النص المخادع والنص الإنساني. فالأول يبني مسافاته الجمالية على غرائز القارئ العادي. والثاني يبني مسافاته الجمالية على شمولية وعي القراءة الضمنية. ولذلك تبدو النصوص السردية الإنسانية أكثر تمرداً، وتنفلت من الهيمنة عليها نقديا، وتبدو متعددة القراءات والخطابات، ولكنها تعبر عن متعة جمالية ما، تمّ القبض عليها أو الإحساس بها .
من ذلك التعدد كان الاختلاف الأوّل مع قراءات” عشب الليالي ” ولكنه ليس اختلافا ضدياً ، وإنما توسيعاً لمعطى المسافة الجمالية التي خلقها السرد مع المتلقي ، بخاصة بعد إغلاق الصفحة الأخيرة ، وإعادة تشكيل الدلالة ؛ لإضافة متعة الفهم والمشاركة في التشكيل ، على متعة الحفر السابقة في المذكرة السوداء .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*عشب الليالي . باتريك موديانو . ترجمة توفيق سخان .منشورات ضفاف . دار الأمان .الاختلاف ط1 / 2014
1 ـ هيثم حسن .
“عشب الليالي”.. موديانو ينبش ركام الذكريات السود – الجزيرة
aljazeera.net/…/-عشب-الليالي-موديانو-ينبش-ركام-الذكريات-السود
2 ـ توفيق سخان
عشب الليالي
by باتريك موديانو – Goodreads
____________
*باحث أكاديمي سوري مقيم في المغرب