في الحب وأحجياته.. (7)


*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي


إن فكرة وجود محبوبٍ في حياتك تلهِمك الرغبة لأن تغدو محبوباً أنت الآخر، ومن المؤكّد أنّ رغبتك لأن تكون محبوباً تعني بالضرورة حفاظك على كل مايعزّز إحترامك الشخصيّ.
للكاتب الفيلسوف “رونالد دي سوسا” من كتابه (الحب : مقدمة قصيرة جدا) الصادر عن جامعة اوكسفورد 2015
بوسانياس Pausanias ، الثاني بين المتكلّمين في الندوة ، يمضي في تفصيل صفات من هو مؤهّلٌ للحب . يمكن للحب أن يجترح الدوافع للإتيان بأفعالٍ شريرة أو خيّرة سواء بسواء ، فهل يعني هذا الأمر حتمية وجود نوعيْن من الحب ؟ ليس بالضرورة ، وثمة أسباب معقولة وأخرى رقيعة فيما يخص الغرض الأولي للحب . لنفترضْ مثلاً أن الغرض الأساسيّ من الحب هو أن تكون محبوباً ، وحينها قد يكون السلوك المهذّب وسيلة لضمان بلوغ إحترام المحبوب ولايحتاج هذا الفعل لأن ينطوي على أية إشارة إرتزاقية لأن فكرة وجود محبوبٍ في حياتك تلهِمك الرغبة لأن تغدو محبوباً أنت الآخر ، ومن المؤكّد أنّ رغبتك لأن تكون محبوباً تعني بالضرورة حفاظك على كل مايعزّز إحترامك الشخصيّ . إن مايستحق القليل من الثناء هو لجوء المرء إلى التدليس أو الإفتراء أو حتى القتل لإزاحة خصومه المناوئين له وهو في خضم مسعاه المحموم لأن يكون محبوباً . 
لكن هذا ليس مايتحدّث بوسانياس بشأنه ، وهو لايعمد إلى المقابلة بين نتائج الحب بل بين أنواعه : تحدث بوسانياس عن أن الحب الجيد ينبثق من الروح ، والنوع السيئ منه ينبثق من الجسد ، وهذان النوعان من الحب مختلفان إلى حدّ أصبحا معه في حاجةٍ إلى آلهةٍ راعية مختلفة ( وربّما لغرض الإقتصاد في الآلهة فإن الآلهتيْن تدعَيان أفروديت Aphrodite على الرغم ممّا يسببه هذا الأمر من إرباك ) . أحد النوعين من الحب ” سماوي فردوسي ” ، أما النوع الآخر فهو ” أرضي مشاعيّ ” ، ويمضي بوسانياس في التفريق ( الذي يُحسَب في العادة أمراً مفروغاً منه ) بين الحب الحقيقي والشهوة الخالصة : الحب الحقيقي الذي يُعدّ علوياً وروحانياً ومُختصاً بتطلعاتنا المُتوّجة بالفضيلة في مقابل الشهوة الخالصة والجامحة التي تشير إلى غرائزنا اليومية التي نتشاركها مع الحيوانات غير البشرية . 
هل يرتكز هذا التفريق بين نوعيْ الحب على حقائق الطبيعة ؟ يقترح السياق الخاص بموضوع الحبّ في ندوة أفلاطون أن ذلك التمييز لايرتكز على معطياتٍ طبيعية : كلّ مَنْ كان حاضراً في الندوة كان يدرك أن الشكل الأرقى السائد في الحب آنذاك وعلى نحوٍ مسلّم به هو ذلك الذي يحصل بين رجلٍ وطفل يافع ، في حين أن أغلب معاصرينا اليوم خليقون بوصف ذلك الحب بأنه إشتهاء آثمٌ ومقيت للأطفال Paedophilia . كيف يمكن لمثل هذا الإنحراف الصارخ أن يكون عرفاً سائداً بين مريدي حلقة أفلاطون التي ضمّت بعضاً من أرقى الرجال الذين لايزال إشعاع فكرهم ملهماً لنا ولازال يحوز على أعلى مراتب تقديرنا وإحترامنا بعد مايقارب الألفيْن وخمسمائة سنة ؟ . من الواضح أن التوقعات والممارسات الإجتماعية قد طالها تغيير عظيم وهو مايقودنا إلى الإقتناع بأن الطريقة التي نفهم بها التمايز بين أشكال الحب ” العليا ” و ” الدنيا ” أمر لاتقرّره حقائق الطبيعة بل هو أمر مُرتَهَن – ولو جزئياً في أقل التقديرات – بالأعراف الاجتماعية المتغيرة . لايزال مفترضاً اليوم وعلى نطاق واسع أن ثمة أشكال راقية وأخرى واطئة للحب دوماً ، ولكن لِمَ يتوجّب علينا التفضيل بين أحد أشكال الحب الإيروتيكي ووضعها في مصاف أرقى من الشكل الآخر للحب ذاته ؟ 
ثمة سببان يمكن تقديمهما إزاء هذا الأمر : يستند أحد هذين السببيْن على النتائج المتحصلة من الشكل الأكثر إيثاراً altruistic من الحب والذي سينظرُ له بإعتباره الشكل العلوي من الحب لأن النزعة الإيثارية تفضي بالنتيجة إلى التوافق الاجتماعي ، ويمكن عند هذه النقطة ملاحظة أن سجلّ المحبين يبدو مختلفاً بشأن الموضوعة الإيثارية – إذ عندما يتخندق المحبون داخل شرنقة الهيام المشترك ببعضهم فإن الإيثارية تختص بشخص المحبوب ذاته ويمكن للمحبين في هذا الوضع وبسهولة فائقة نسيان أمر بقية العالم . 
الشكل الثاني من الأسباب المؤدية للتفريق بين نوعي الحب ووضع أحدهما في مصاف يعلو على الآخر يعود إلى مفاهيم محددة تختص بموضع الحب والجنس في الطبيعة البشرية . إن مثل هذه المفاهيم قد تجمّعت عبر العصور في إطار ثلاثة نمادج أساسية : النموذج الأوّل – وهو الذي قدّمه بوسانياس في الندوة الأفلاطونية – ويجوز لنا تسميته النموذج البيوريتاني ( الطهرانيّ Puritan ) ، ويميل هذا النموذج لتوظيف توليفة كاملة تجمع بين العقل والعاطفة والإشتهاء ، ويمكن توصيف العقل في هذه التركيبة بأفضل الأوصاف المشتقة من ذواتنا الحقيقية ، وتختزَلُ بعض النسخ المعدّلة من النماذج الطهرانية إلى إنشطار ثنائي بسيط بين ( الروح ) و ( الجسد ) وعلى أساس أن الروح خيّرة والجسد شرير . 
النموذج الثاني يعمل بالضد من النموذج الأول وإن كان مكافئاً له في نزعته الطهرانية ، ويرى هذا النموذج في الجسد الذات الأصيلة الوحيدة ، ويمكن لنا أن ندعوه النموذج اللورنسيّ Lawrentian ( في إشارة بيّنة إلى دي. إج. لورنس ) الذي بدا دوماً فيما يكتب كما لو أنه يرى في العقل والمنطق وربما الحضارة ذاتها فساداً أصاب البراءة البشرية المتوارثة مع الإنسان منذ أيام الخلق الأولى في جنة عدن ( طبقاً للنصوص الدينية ) ، وإن تخريب براءة الإنسان قد أصاب طبيعته الجنسية والجسدية في مقتل. 
النموذج الثالث هو النموذج الذي يمكن أن نصفه بالنموذج العابر للهوية الجندرية والذاتية Pansexual ،وينسَبُ أصل هذا النموذج أحياناً إلى فرويد، وطبقاً لما هو سائد في هذا النموذج فإنّ الجنس يعتبر المصدر الأولي الوحيد لكل الدوافع البشرية ، وإنّ مايبدو للوهلة الأولى أهدافاً ذهنية أو روحانية خالصة – ويشمل ذلك الأشكال العلوية من الحب- ليس في النهاية سوى تصعيداتٍ متسامية Sublimations للغريزة الجنسية ذاتها بعد إعادة توجيه أهدافها المتوخّاة ولكن من غير تبديل مصدرها. بموجب هذا النموذج الثالث من الحب فإن شيئاً مماثلاً للنزوع الجنسي الأصلي يظهر في أغلب الأشكال الأكثر تسامياً للحب المقدّس وعلى النحو الذي يفصح عنه -على سبيل المثال – نصب برنيني Bernini الذي يطلق عليه ( نشوة القديسة تيريزا Th Ecstasy of Saint Teresa ).” انظر الصورة المرفقة”
إن الحب الموصوف بأنه ( ماتبتغيه الطبيعة ) سيعتمد على أيّ من هذه النماذج الثلاثة يتمّ تفضيله على سواه . تميل التقاليد المسيحية ، على سبيل المثال، إلى التمثّل الحرفي للتفريق الثنائي بين الجسد والروح مع التدعيم الثابت للنظرة القائمة على إرتباط المقدّس Sacred بالروح وإرتباط المدنّس Profane بالجسد في أشكال الحب السائدة ، وبالنسبة لهؤلاء الذين نشأوا في بيئة تتبع التقاليد المسيحية بصرامة ( وفي بعض البيئات المماثلة لها ) فإن المفهوم التمييزي بين الجسد والروح يمضي في العادة بلا مساءلة أو محاكمة جدية ، ولكن بعض الثقافات رأت في النشوة العظمى المصاحبة للحب الجسدي وجهاً أو عرَضاً للحب المقدّس بدلاً من إعتباره ظاهرة مخالفة للسلوك الرصين أو غير متوافقة معه . ترى بعض الأشكال من التقاليد التانترية Tantric ، مثلاً ، في الحب الجنسي أحد الاعراض الأساسية الواجبة لبلوغ القداسة وتتجنّب الخوض في موضوعة الثنائية التي يعتنقها الطهرانيون وأتباع النزعة اللورنسية . ( يشير الجنس التانتري إلى المواقعة الجنسية الطويلة التي تبتغي الإندماج بين جسديْن بحيث يستحيلان واحداً ، أما تانتر Tanterفهي مفردة سنسكريتية تعني ” الإندماج معاً ” ، ويستخدم المتأملون البوذيون والهندوس الإتحاد الجنسي الكامل كإستعارة للإندماج بين الجسدي والروحاني ، وكذلك للإندماج بين الرجل والمرأة أثناء الفعل الجنسي ، وأيضاً لإندماج الإنسانية مع الإله . أما الغرض النهائي من كل هذه الإندماجات فهو أن نكون كلّا واحداً وثيقاً مع الله ، المترجمة ) .
_________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *