*أ.د. ضياء نافع
تسلمت هدية جميلة ورائعة من زملاء الدراسة بجامعة موسكو في ستينات القرن الماضي , وهي عبارة عن كتاب روسي عنوانه – ( اصدقاء بوشكين ) من تأليف فيكتور فلاديميروفتش كونين ( والذي كتب في الصفحة الرابعة داخل الكتاب اسمه وأشار الى ان الكتاب من اعداده وتهميشه ليس الا انطلاقا من تواضع العلماء طبعا ). الجزء الاول من الكتاب يقع في 639 صفحة من القطع المتوسط , والجزء الثاني يقع في 639 صفحة ايضا من نفس القطع ( ويا لها من مصادفة غريبة ! اذ لا اظن انها جاءت متعمدة) , وكلاهما صادر في موسكو عام 1986 عن دار نشر(برافدا).
يتناول هذا الكتاب ثلاثين صديقا لبوشكين , ويتحدث عن علاقة الشاعرمعهم , ويستند الباحث الى الرسائل المتبادلة بينهم والى قصائد محددة كتبها بوشكين حولهم والى مصادر عديدة اخرى من كتب ومجلات وصحف ومذكرات اناس عاصروا تلك الفترة …الخ من المراجع المتنوعة الاخرى . انه كتاب فريد من نوعه فعلا , وهو – حسب فكرته وصياغته الفنية هذه ومضمونه – يجسد بحثا علميا محددا ودقيقا ومبتكرا واصيلا وجميلا بكل معنى هذه الكلمات , وذلك لأنه يعتمد على وثائق مدونة – وليست خواطر وتأملات – حول بوشكين , شاعر روسيا الاول عبر كل العصور , ويستخلص الباحث منها استنتاجاته العلمية الدقيقة . كم اتمنى ان أجد يوما – ما بالعربية كتبا مماثلة لهذا الكتاب تحمل عناوين مثل – أصدقاء أحمد شوقي // أصدقاء الجواهري // أصدقاء السياب // أصدقاء نزار قباني … الخ , اذ ان ذلك سيعني اضافة نوعية ومعمقة لدراسة ادبنا وفكرنا .
يثبّت المؤلف في الصفحة الاولى من كتابه مقطعا من قصيدة بوشكين وهو- …أصدقائي وموهبتي ….
هم سلوتي…
وهو اختيار دقيق وطريف حقا , اذ ان القارئ يكتشف – بعد الاطلاع على الكتاب طبعا – ذلك الدور الكبير لأصدقاء بوشكين في مسيرة حياته وانعكاس تلك العلاقات الواسعة على ابداعه .
لا يمكن بالطبع لهذه المقالة ان تعرض هذا العدد الكبير من اصدقاء بوشكين , ولكننا نود ان نتوقف عند البعض منهم ليس الا . يبتدئ الكتاب بعرض اصدقاء الصبا والمدرسة والاقارب طبعا , ويتوقف اولا عند عم بوشكين وهو فاسيلي لفوفيتش بوشكين (1766-1830) والذي كان شاعرا معروفا في زمانه , وعلى الرغم من الفارق الكبير في العمر بينهما ( هو أكبر من بوشكين بثلاث وثلاثين سنة ) , الا ان تأثيره على شاعرية بوشكين كانت كبيرة جدا بشهادة كل نقاد ومؤرخي الادب الروسي , لهذا يرى الباحث انه أول الاصدقاء . يتوقف الباحث بعدئذ عند اخت الشاعر التي كانت أكبر منه بسنتين واسمها اولغا , والتي كتب لها بوشكين قصيدة طويلة عندما كان عمره 15 سنة ليس الا بعنوان ( الى اختي ) يتناول فيها بشكل جميل كل ذكرياتهما, وقد بدأت واضحة في تلك القصيدة خصائص بوشكين الشعرية من بساطة التعبير ورشاقة الكلمات وصولا الى ( السهل الممتنع ) , هذا الاسلوب البوشكيني الجميل . هناك شخص آخر من عائلة بوشكين يدخل ضمن الاصدقاء وهو أخ بوشكين الاصغر منه واسمه ليف سيرغييفتش بوشكين , الذي ولد بعد ست سنوات من ولادة الشاعر . لقد كان بوشكين يكتب لأخيه رسائل صريحة وتفصيلية عن كل شيء يخطر في عقله وقلبه وروحه من افكار وأحداث لدرجة ان بعض الباحثين في أدب بوشكين يؤكدون ان هذه الرسائل هي المصدر الاول في دراسة ابداع بوشكين وتحليله, وكان بوشكين يعرف بالطبع أهمية تلك المراسلات , لهذا أوصى زوجته ان تعطيها لابنه الاكبر عندما يبلغ عمره 18 سنة . يتوقف الباحث بعدئذ عند مربية بوشكين واسمها ارينا روديونفنا ياكوفليفا ( 1758 – 1828), ويعدها ضمن الاصدقاء الذين تأثر بهم بوشكين , اذ انه سمع منها الاغاني الروسية والحكايات الشعبية, وحتى ان بوشكين كتب عنها في احدى قصائده قائلا انها – ( صديقة الايام الجهمة), وذكرها عدة مرات في قصائد اخرى , بل توجد لوحة زيتية مشهورة في الفن التشكيلي الروسي تمثٌل بوشكين ومربيته ياكوفليفا , وقد تكلم مؤرخو الادب الروسي عن دورها في بلورة آراء بوشكين حول روسيا وابداعه , خصوصا في سلسلة حكاياته الشعبية الروسية . الاسم الآخر الذي يتوقف عنده الباحث في هذا الكتاب هو انطون انطونفيتش ديلفغ ( 1798- 1831) , الذي أشار بوشكين في احدى رسائله الى انه ( لم يكن احد قريب لي أكثر منه ..) , وربما توجد في هذه الكلمات مبالغة وعواطف , اذ ان بوشكين كتبها بعد موت ديلفغ مباشرة , ولكنها في كل الاحوال تعني شيئا – ما حتما , بل وانها تؤكد- بغض النظر عن كل شيء – ان علاقتهما كانت قوية فعلا. ينتقل الباحث بعد ذلك الى اسم كبير في تاريخ الادب الروسي وهو فاسيلي اندريفتش جوكوفسكي (1783- 1852) , والذي يرتبط اسمه في تاريخ الادب الروسي بالرومانسية باعتبارها مدرسة ادبية متميزة في مسيرة ذلك الادب , اضافة الى انه يعد من أبرز المترجمين الروس , والذي ترجم ملاحم الادب العالمي الى الروسية مثل ( الاوديسة ) لهوميروس و( الشاهنامة) للفردوسي وغيرها . لقد لاحظ جوكوفسكي عبقرية بوشكين منذ بداياتها , وأخذ يرعاه , وعندما كان شاعرا للبلاط القيصري ومعلما لابن القيصر دافع عن بوشكين دائما في تلك الاوساط , ومعروفة قصة اهداء صورته الى بوشكين , والتي كتب عليها ( الى التلميذ المنتصر من المعلم المندحر ) . لقد خصص الباحث ستين صفحة باكملها لعلاقات الصداقة بين جوكوفسكي وبوشكين , ونشر الباحث هناك قصيدتين لبوشكين الاولى بعنوان ( الى جوكوفسكي ) والثانية بعنوان ( نحو بورتريت جوكوفسكي ) , ونشر كذلك قصيدة جوكوفسكي عن بوشكين وهي بلا عنوان , يصف فيها وقفته التأملية عند جثمان بوشكين , وهناك مقاطع عديدة من الرسائل المتبادلة بينهما , وكذلك من رسائل جوكوفسكي الى اصدقاء آخرين له يتحدث فيها عن بوشكين وجمالية قصائده ويسميه ( عبقري مدهش …) ويطلب منه في رسالة عام 1825 ان يتفرغ كليا للشعر كي يمنح الادب الروسي ( نتاجا خالدا ) . ينتقل الباحث بعدئذ الى عدة اسماء اخرى كبيرة في تاريخ الادب الروسي منها – فيازيمسكي و تشادايف وكارامزين وغيرهم . لا يمكن بالطبع ايجاز علاقات بوشكين بتلك الاسماء البارزة من الادباء وانعكاس كل ذلك في ابداع بوشكين او في النتاجات المتشعبة لهؤلاء الادباء والمفكرين الكبار, او في مسيرة الادب الروسي وتاريخه بشكل عام , وانا على قناعة تامة ان علاقة بوشكين بكل واحد من تلك الاسماء تتطلب مقالة خاصة منفصلة , واتمنى ان تسمح ظروفي لتحقيق ذلك لاحقا من اجل اغناء الدراسات العربية حول بوشكين واهميته في الادب الروسي.
______
*المدى