تناقضات توظيف الحرية في الثقافات إلإنسانية


*لطفية الدليمي



ابتكرت الثقافات المختلفة مفردات غير مسبوقة للتعبير عن مفهومها للحرية ، مع ان تلك المجتمعات القديمة ذاتها كانت تعتمد نظام العبودية والقنانة إلا أن قاموسها اللغوي كان يزهو بمفردة الحرية ويفسرها على أنها من ضرورات الحياة الانسانية .
 فالسومريون ومعظم الحضارات الزراعية الأولى في بلاد الرافدين كانوا يعتمدون على نظام العبودية لخدمة اقتصادهم الزراعي ومعابدهم ، ومع ذلك فقد ابتدعوا كلمة ( أمارجي )التي تعني الحرية وامتلاك الانسان لمصيره . فقد وردت كلمة أمارجي في متن قانون الملك “اورو انميكينا” من عصر دويلات المدن ، ورغم تداول المفردة لبثت على مدى آلاف السنين موقوفة الفعل في بلاد الرافدين ، فنظام العبودية ظل قائما وثورة الزنج احد براهينه .

 لعل الحاكم الذي استخدم كلمة أمارجي في وثيقته القانونية كان رؤيويا حالما تراءى له الانسان المقهور في تلك الحقب الغابرة وقد انعتق من أغلاله وانطلق في حياة تليق بإنسانيته على الضد مما كان سائدا في مجتمعه الطبقي الذي يقر بامتلاك البشر وتسخيرهم لمصالح شخصية واقتصادية. في عصور ما قبل التاريخ والحضارات اللاحقة التي عرفت التدوين ،كان الانسان الحر يعني نقيض العبد من الوجهة القانونية ، فالعبد كان مملوكا لإنسان آخر يتمتع بحرية بيع وشراء البشر واستعبادهم لإنتمائه إلى طبقة الاحرار.

 وكانت المجتمعات القديمة تعترف بالعبودية وامتلاك الإنسان كنظام راسخ لايمكن مناقشته لتحقيق رفاه شخصي أو منافع اقتصادية أو لاستخدام العبد في الأعمال المرهقة واستغلت الحضارات البابلية واليونانية والفارسية والآشورية والفرعونية والمصرية العبيد الأرقاء في بناء المعابد والأهرامات والزقورات متعددة الطوابق وقصور الملوك الأقدمين ومدافنهم .

وقد تعاظم اقتصاد تلك الحضارات وثراؤها في آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا وازدهر بسبب استعباد البشر من أسرى الحروب والمعدمين. بعدما أعلنت الثورة الفرنسية شعارها العتيد ( الحرية- المساواة – الاخاء) ازداد تغوّل الدولة الفرنسية في اجتياح البلدان والغزو واحتلال مناطق شاسعة في افريقيا والشرق الاوسط وجنوب شرق آسيا وأميركا الوسطى ، بل أن شعار الثورة العتيد لم يحُلْ بين فرنسا وبين أن تغدو دولة عدوانية في توسعها العسكري وإذلالها للشعوب المستعمرة في آسيا وافريقيا. وقد واجهت مفردة الحرية على امتداد التاريخ الإنساني التباسا وتضليلا وتمويها في تأطير مؤداها وحدودها وخضعت لتأويلات نفعية، وغالبا ما استخدمتها الإمبراطوريات الكبرى وهي تغزو بلدانا وتحتلها معلنة سعيها لتحرير الانسان من قيوده بينما كانت تمعن في إذلاله واستعباده.

 استخدم افلاطون في كتابه الشهير “الجمهورية” نظاما قائما على التقسيم الطبقي للدولة: طبقة الحكام، طبقة الجيش، طبقة الصناع والعمال ومعظمهم من العبيد الأرقّاء ووقع في تناقض واضح بين موروثه الفلسفي ونظام دولته ، فالفلسفة الاغريقية كانت أول من بشر بفكرة الديموقراطية، وعمد الإسكندر الى نشر الثقافة الاغريقية بالقوة والارغام في الاصقاع المحتلة واستعبد اعدادا هائلة من شعوبها .
وانطوت الثقافة اليونانية في فترات الغزو والفتوحات على تكريس تام لتقديم الولاء المطلق من قبل الحشود المستعبدة للحاكم الإغريقي ومن يمثله. وعندما هيمن الرومان على العالم القديم فرضوا اللغة والثقافة اللاتينية والعبودية على مستعمراتهم – مع احتفاء تلك اللغة والثقافة والفلسفة الرومانية في متونها المدونة بمفردة الحرية وضرورتها للحياة الانسانية، كما أن استخدام مفردة الحرية في ثقافات دول كبرى كأميركا واعتبارها من اساسيات النظم الديموقراطية -لم يلزم تلك الدول بتعزيز فكرة الحرية ففي عصر العولمة زالت الحدود بين الثقافات -إنما نهضت حدود متصلبة قسمت عالمنا الى خيّر وشرير فانفلت العنف وولد الوحش المتغوّل ليجتاح عالمنا.
______
*المدى

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *