في تناقضات المثقف


*فاضل السلطاني

ربما ما يميز المثقف العربي، عن غيره من مثقفي الأمم المتحضرة، هو غياب منظومة فكرية منسجمة. وهذا لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى ازدواجية قاتلة في التعامل مع الظواهر الاجتماعية والسياسية. فهو قد يقف بقوة ضد طاغية في بلده، ويدفع ثمنا غاليا نتيجة ذلك، بينما يؤيد طاغية في بلد آخر، فقط لأن الطاغيتين ليسا على وفاق على طريقة «عدو عدوي صديقي!»، التي قد ينتهجها السياسيون لأهداف تكتيكية، ولكن لا يمكن أن تليق بالمثقف، بل إنها تلغي جوهر وظيفته الفكرية والإنسانية والمهنية أساسا.

الأمثلة لا تحصى على المواقف المتناقضة عند قسم كبير من المثقفين العرب. والتطورات الأخيرة في المنطقة العربية، وخاصة في مصر، أبرزت هذا التناقض على أشد ما يكون. من أين ينبع هذا التناقض القاتل؟ ربما يعود سبب ذلك إلى عوامل كثيرة تراكمت خاصة منذ بداية الخمسينات مع الانقلابات العسكرية، وصعود ما يسمى الفكر البعثي والقومي، غير الصافيين إطلاقا، بل هما مجموعة أفكار هلامية، أخذت شذرات إنسانية من الفرنسي رومان رولان، وشذرات أخرى من الإيطالي جوزيبي مازيني خاصة فكرة الانبعاث، كما نلاحظ في الكتابات التأسيسية لهذا «الفكر»، وخاصة في «سبيل البعث» لميشال عفلق، الذي صار المرجع الوحيد لأصحابه، ثم دمجتها في نسيج سرعان ما اهترأ تحت شمس الواقع الحارقة. لقد سيطر هذا التيار طويلا على الحياة الفكرية العربية إلى جانب التيار اليساري، الذي تفرع بعضه من التيار القومي من دون أن يملك الأدوات الفكرية اللازمة. وبسبب هذه السيطرة الفكرية شبه المطلقة، لم يبرز تيار قوي غير مؤدلج في الحياة المدنية العربية يكون مشروعه الوحيد الدفاع عن الإنسان، مطلق الإنسان، مهما كانت أفكاره مناقضة لأفكارنا. لقد رفع كلا التيارين، مع اختلاف المصادر الفكرية، من شأن الفكرة الغائمة في الهواء على حساب الإنسان وحقه في الحياة والاختيار والتفكير الحر. وبالطبع، يمكن إلواء عنق أي فكرة لجعلها تتوافق مع ميولنا واتجاهاتنا، ومن هنا ازدهرت عندنا، في السنوات الخمسين الأخيرة بشكل خاص، ثقافة التبرير وتخوين الآخر، وإلقاء كل شيء على مشاجب خارجية وهمية، كما لم تزدهر في كل تاريخنا. إنها الأدلجة، والأدلجة الناقصة، هي التي تعمي أبصارنا عن الإنسان، الذي من المفروض أن يكون أثمن رأسمال على الأرض. وهي التي تقودنا إلى التصفيق لاضطهاد الآخر المختلف عنا، مع أن كل الشرائع الإنسانية أكدت مشروعية هذا الاختلاف.
ولعل من الأسباب الأخرى لتناقضات مثقفينا، إذا استعنا بعالم الاجتماع علي الوردي، تداخل عناصر البداوة المترسخة في الأعماق مع عناصر الحضارة التي لم تترسخ بعد بحيث تصبح قادرة على إزاحة الأولى. والتخلص من هذا التداخل يتطلب نضالا طويلا سواء على المستوى المجتمعي، أو على مستوى الفرد، وبالدرجة الأولى النضال ضد النفس، وهو الأكثر مشقة. ولكن لا يمكن أن يتم ذلك من دون أن نملك شجاعة المراجعة والنقد الذاتي والاعتراف بأننا عموما وفي مواقف كثيرة مزدوجو الفكر والضمير أيضا، بدل أن نردد ليل نهار شعارات الحرية والتنوير وحرية التعبير إلى درجة لم يعد فيها أحد يصدقنا.
______
*شاعر من العراق يقيم في لندن(الشرق الأوسط)

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *