ثقافة الثقافات


*سعيد يقطين

يخضع التمييز بين الثقافات، بصفة عامة، لاعتبارات لا علاقة لها بالإنتاج الثقافي ودوره في الحياة. فقد تكون للتمييز أبعاد اقتصادية أو سياسية طارئة. وهو في كل هذه الحالات، وهو يعلي من شأن ثقافة على حساب أخرى، لا يمكنه أن يسهم في تكريس ثقافة على حساب أخرى، ولكنه، في الواقع، يضاعف من عزلة الثقافة التي يراها أهلا للسيادة والهيمنة. ولعل القراءة الفاحصة للتاريخ الثقافي يبين بالملموس، أن الثقافات مترابطة، لأن كلا منها يتفاعل مع غيره، ويشارك في التطور والازدهار.

شاع منذ نهاية الحرب الثانية التمييز بين الطبيعيات والاجتماعيات والإنسانيات، بحسب أهمية كل منها في المجتمع، ولذلك كنا نجد تباين وجهات نظر المشتغلين بكل ثقافة، وكل من جهته يعمل على إبراز «مناقب» ثقافته وأهليتها للحضور واستقطاب الاهتمام المالي والحظوة الاجتماعية. وإن كنا بالمقابل نجد، من منظور علمي، علماء مشهود لهم بعلو الكعب في المجال العلمي يرفضون هذه التمييزات. وفي بلداننا العربية التي لم تتطور فيها سوى الإنسانيات لأسباب خاصة، تتعلق أساسا بغياب توفير بنيات العمل الجماعي، نجد دعوات بين الفينة والأخرى إلى تهميش الإنسانيات والاجتماعيات، واستبعادهما من دائرة الاهتمام.
غير أن التمييز بين الثقافات الثلاث، في رأيي، لا يمكن أن يتحقق بالصورة الملائمة، بدون استحضار ثلاثة مفاهيم مركزية هي: العصر المعرفي، والإبدال المعرفي، والمعرفة الطليعية. وكل هذه المفاهيم ترتد جميعا إلى مفهوم مركزي موحد هو «الوسيط الثقافي» الذي بدونه يستحيل الحديث عن أي ثقافة، أيا كان نوعها، بل إن تطور الوسيط الثقافي لا يمكن أن يتم بدون مشاركة كل الثقافات في تطويره، ومن ثمة يصبح هو «ثقافة الثقافات» التي لا يمكن أن تستغني عنها أي ثقافة.
إن العصور المعرفية والإبدالات التي تتحقق فيها، والمعرفة التي تقود غيرها متطورة ومتغيرة، لذلك لا يمكن للحديث عن ثقافة ما، والانتصار لها، بتهميش غيرها، إلا أن يؤدي إلى التفاوت الثقافي الذي يؤثر على الحياة في مختلف مكوناتها، ويجعل إمكانات التطور متعثرة وناقصة. يمكننا التمثيل لهذه الفكرة، بالذهاب إلى أن المرحلة الشفاهية في المجتمع العربي هيمنت فيها «ثقافة الكلام»، القادر على التأثير في النفوس، من شعر الشاعر إلى سجع الكاهن، مرورا بحجاج الخطيب. ظلت هذه الثقافة هي التي تحكم مختلف الثقافات التي عرفها العرب في بيئتهم الصحراوية. جاء القرآن الكريم ليقدم ثقافة «كلام آخر» مختلف عن الذي كان سائدا، فكان ذلك إيذانا بتحول فكري وسياسي للمجتمع، مؤديا بذلك إلى ظهور وسيط جديد هو الكتابة التي سيكون لها دور كبير في التأثير في الثقافتين اللتين ميز العرب بينهما: الدينية والدنيوية. وبذلك صارت «علوم الكتابة» هي الثقافة التي سيأخذ بها المشتغل بأي ثقافة، أي الثقافة التي ترتد إليها كل الثقافات التي اشتغل بها العرب، وحتى الثقافة الشعبية التي ظلت شفاهية، ستعمل بدورها على الاستفادة من الثقافة الكتابية لتثبت حضورها في الواقع الثقافي العربي. 
إن الكتابة باعتبارها وسيطا ثقافيا تتحقق من خلاله مختلف الثقافات صارت هي الفيصل الذي بمقتضاه يتم التمييز بين الأفراد والجماعات. وبها كان يقاس التقدم والتطور على المستويات كافة. وكلما تراجعت «الكتابة» وعلومها، وقل الاهتمام بها لسبب أو آخر، كان ذلك إيذانا بتراجع كل العلوم والمعارف أيا كانت الرتبة التي تعطى لها في نطاق التمييز بين الثقافات أو المفاضلة بينها، ولنا في التاريخ العربي أمثلة دالة على ذلك. 
جاءت الطباعة لتكون تطويرا للكتابة وتوسيعا لمجالاتها، لقد ارتبطت الطباعة بالتطور التكنولوجي، فساهمت في تعزيز وتيرة الإنتاج الثقافي والمعرفي والعلمي. وتبين أن الأمم التي تطورت فيها الطباعة كانت أسبق من غيرها إلى التقدم من التي تأخر فيها ظهورها. ويمكن تعميم ذلك على الوسائط الجماهيرية في أبعادها الصورية والسمعية. إن كل هذه الوسائط لعبت أدوارا كبيرة في تطوير مختلف الثقافات التي يتم التمييز بينها حاليا.
ما كان لهذه الثقافات الثلاث أن تتحقق لولا التطور الذي حصل في القرن التاسع عشر مرتبطا بالثورة التكنولوجية التي ساهمت في جعل الطبيعيات علما طليعيا لولاه ما كان بالإمكان الحديث عن الاجتماعيات. أما الإنسانيات ممثلة في الفلسفة والتاريخ والأدب فقد كانت موجودة أبدا. ومع التكنولوجيا حققت بدورها تطورا لم تعرفه في كل العصور السابقة، وهي تتفاعل مع الثقافتين الطبيعية والاجتماعية في الغرب. 
إن الدعوة إلى تشجيع العلوم على حساب الإنسانيات والاجتماعيات لا يسهم في التطور، لسبب بسيط هو أن «ثقافة الثقافات» في القرن الواحد والعشرين هي التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل ( ICT) ، ولا يمكن لأي ثقافة، كيفما كان نوعها، أن تتطور بدون الأخذ بأسبابها مع العمل على تطويرها. 
إن تطوير الثقافة العربية، ودخول العصر المعرفي، رهين بانتهاج الصرامة العلمية، واعتماد التكنولوجيا الجديدة في كل المجالات، وإيجاد الجسور بين الثقافات الثلاث. ولا فرق هنا بين اللغة والأدب والفقه والفكر، أو الظاهرة الاجتماعية، أو الطبيعية. وإلا فإن التمييز بين الثقافات لن يكون سوى تكريس للتخلف.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *