مسافة «بين الصوت ودفقة اللبن»


*سعيد الكفراوي



يتجول مع جدته التي تكلمه في الطريق عن الناس والبهائم، وحينما يذهب إلى فرنسا ويتكلم مع كتاب مصريين إلى جمهور حاشد يأتي دوره فيتذكر جدته وصلتها بالجاموسة التي انقطعت عن الحلب حينما غابت عنها ولم تعد إليه إلا حين سمعت صوتها
زماااان…..
يمكن كان عندي أيامها ست، سبع سنين، وكنت أشبه بجدي صغير لا يكف أبدا عن الحركة والمشاغبة، وكانت الدنيا أيامها على اتساع مثل يوم القيامة.
صعدت الجميزة على النهر، التي تمد أفرعها مثل أذرع ناحية الماء، والتي تتجمع عليها طيور الله السارحة آخر النهار فتغطيها بالبياض بإذن الرحمن الرحيم.
كنت أرتل ما حفظته من قصار السور، وصوتي يسري مع الماء بالايقاعات المعقودة، تحمل الكلمات المباركة التي شدت انتباه جدتي «هانم» لتخرج من قلب الدار وتتأملني جالسا على الفرع الممدود بوجهها الصبوح، المضيء بالفرح.
ـ مبارك حافظ السور. مبارك مرتل القرآن الكريم.
زحفت هابطا نحوها فصاحت بصوت مهتدج:
ـ حاسب وانت نازل. الجميز غشوم لا يسمى على ابن آدم.
أخذتني في حضنها وسارت بي على الشاطئ وقت الضحى. كانت الشمس في غاشية البياض، وصوت مراكبي يأتي بالغناء الشجي.
قبضت على كفي، وعندما مرت جارة أشارت جدتي ناحيتي وقالت:
ـ لبنى يمشي بجانبي على قدمين، وابتسمت. ردت الجارة عليها:
ـ يبارك ربك في الخلفة عيال وعجول. ضحكت ومضت لحال سبيلها.
تسحبني جدتي من يدي. تكثر في قلبي الهواجس. كانت لا تكف عن تلقيني معارفها البدائية، من أول الخلق حتى آخر ليلة عزاء لقريب راحل.
بلد للسحر والصدق والغرايب. بلد مسكونة بأهل الباطن، يسكنون الطواحين وأطلال الخرائب، ويمارسون على البشر المس ولعنة الغيب والخسران المبين.
لم أكن أفهم، وأتوه في غاشية معارفها ويختلج قلبي بما لا أعرف!!
تقول:
ـ إفهم لولا النور ما كان الظلام. هي حكمة ربك علشان نعرف الحلو من الوحش ونعرف الظاهر من الباطن، وصدق من قال: تبات نار تصبح رماد لها رب يعدلها.
تقف ثم تنحني وتنظر في عيني وتقبض على كتفي وتقول:
ـ الرحمة بين الناس عدل، واللي قبلنا قالوا للظالمين: انتبهوا الحياة آخرتها الموت!!
تحذرني من أهل الشر: احذر الحقود والفاسد وابن اللئيمة والصاحب المنافق في الوش مراية وتحت البراقع سم ناقع. واللي يحب نفسه تكرهه الناس.
تخطو أمامي خطوتين، ثم تقف وتشير ناحيتي:
ـ أعتمد على فطرتك في فهم الأمور. تقبض على ذراعي وتشير ناحية الغيطان.
ـ بص. الزرع زي الأجاويد يشيل بعضه.
تشعر بوجلي، ومخاوف ترتسم على وجهي من ألغازها التي دائما ما تحدثني بها. تصرخ:
ـ إياك والخوف، الخوف طبع اللي مش راجل، والشجاعة زينة الرجال، وصدق من قال: الرحى ما تدور إلا بقلب من حديد، والمنظر الحسن مفتوح على القلب الحسن.
عبر صوتها استكملت فطرتي، وتعرفت على صوتي وأنا ورثت من نبرات هذا الصوت معرفة بالفصول والأوان، وعرفت أسئلة عن النهار والليل، والحياة والموت.
ألقت الجدة بي خلف تلك السلالات الغريبة التي كانت تزور البلد، والتي كنت أراهم وهم يسحبونني خلفهم يدقون الدفوف، ويطلقون المدائح في ذكر النبي عليه السلام، ويشيعون في الأنحاء جواً من البهجة، بالذات أيام الموالد والخواتيم.
باريس
نبهتني جدتي الى أن بلدنا بلد قديمة تحتشد بالأسرار والرموز، وبها يحيا هؤلاء السكان السفليون، وبها أرواح هائمة بالليل. وكانت تحكي وأنا مستلق برأسي على فخذها، تخايلني غفوة تأتي بذلك الفارس الذي يصعد من النهر على جواده، وأنا بين اليقظة والمنام وصوتها في وعيي مثل حلم، حتى تصفر الشمس فأنهض لألحق بالعيال يملأون الحارات بالظياط والضجيج.
عاشت جدتي طويلا وودعت الدنيا في زمن الخريف.
كانت الدعوة من السفارة الفرنسية بالقاهرة لعدد من الكتاب والفنانين المصريين بمناسبة الاحتفال بذكرى مرور 200 سنة على حملة نابليون على مصر. أذكر من هؤلاء الكتاب الراحل ادوار الخراط وابراهيم عبد المجيد ورؤوف مسعد وعبد المنعم رمضان واعتدال عثمان وغيرهم.
كانت الصحافة الأدبية في مصر قد عارضت الأمر: كيف نحتفل بغزوة استعمارية؟!
كان المرحوم جمال الغيطاني أكثر المهاجمين حماسة ووسم أصحاب الدعوة بالعمالة للفزنكوفونية والعياذ بالله. أنا في الحقيقة لم تكن تعنيني المناسبة، ولم يكن همي حكاية الاحتفال بالحملة أو غيرها، ولا حتى يعنيني الاحتفال بالأخ نابليون شخصياً، أنا كان كل همي السفر إلى باريس، لذلك حين هاجمني جمال رددت عليه في كتابة: يا عم جمال نفسي أزور باريس، وانت أعلم بالأحوال، مرة من نفسي يا راجل أنت شخصيا بتسافر أكثر من بطرس غالي «وكان أيامها عم بطرس أميناً عاماً للأمم المتحدة».
كان منايا أشوف باريس قبل أن أقابل وجه الكريم، الأقواس والقصور، وأتمتع بتماثيل الشوارع، وأزور المتاحف التي عميت عيني في القراءة عنها. حي البغايا والشانزليزيه، ومرابع الحي اللاتيني، ومراسم الفنانين في مونمارتر، وأعيش ساعات بمتحف اللوفر باحثا عن تمثال الكاتب المصري في قاعة الفن القديم بمتحف اللوفر. الأورسّي وجورج بومبيدو ومرابع السورياليين ومولان روح وغيرها!!
كان شاغلي السفر، يخايلني الحلم بزيارة تلك المدينة. يعني لو ضاعت تلك السفرية فلا سفر حتى آخر العمر.
كانت باريس في المتخيل الصعب ذاكرة قديمة تتجدد كلما رأيت صورة لها عاشت معي بين قرية نشأت بها ومدينة تشبهها يفارقها الآن مجدها الغابر، انتهى أمري مع هذه المدينة وقد تجسدت في الوعي بأنها قباب من فضة، وتماثيل من البرونز، وآلهة، ومسارح من الكريستال، وحدائق قديمة تثمر على غير أوان!!
وصلنا باريس، وبعد ترتيب أحوالنا كنت في صحبة ابراهيم عبد المجيد نغوص في الأنحاء. تقرر عقد أول اللقاءات بمعهد العالم العربي. لم يحضر أحد سوى بعض الكتّاب العرب، الأصدقاء، المهاجرين من أوطانهم القديمة!!
رفضنا الكلام لكراسي خالية، وحمدت الله وغصت في المدينة التي أعشقها ممتطيا خبرة ابراهيم، والعم إدوار بالمدينة.
في اليوم الثالث تقرر سفرنا لمدينة بعيدة ربما كان اسمها «نيف سيرلوت» هذا ما أذكره من اسمها!!
كانت مدينة صغيرة مثل بندقة، تقع على نهر ماء جار، وبها حي قديم له بوابة كأنها من القرون الوسطى. كان اللقاء تنظمه البلدية، كما تنظم معرضا للكتاب عن مصر القديمة، وهالني كمية الكتب المؤلفة عن هذا الزمن المصري المرعب، ويرقد بجانب تلك الكتب عدد من المؤلفات الحديثة لا يتجاوز أصابع اليدين لمؤلفاتنا الحديثة المترجمة للفرنسية. كان شكلها وهي تكمن في ركن، لا يلقي عليها أحد النظر، كان اللقاء في مبنى البلدية، وهو بناء عريق له صالة واسعة وبسقفه نقوش بديعة، وأبوابه من طراز قديم.
أدهشني الحضور. كانت القاعة غاصة عن آخرها بالفرنسيين. جاؤوا من معرض الكتاب لحضور اللقاء. وكانت وجوه الناس مشرقة وسعيدة.
اللقاء عن تجارب عدد من الكتاب المصريين الضيوف. تجارب في الحياه وفي الأدب. كنا نتكلم بالعربية وهناك عدد من المترجمات الجميلات اللاتي أسعدني كثيرا وجودهن معنا.
جدتي والجاموسة
بدأ العم ادوار ورقته وكانت عن أدبه والحداثة، وأفاض في الكلام عن الحداثة الفرنسية، ورنت في أفق القاعة أسماء لخواجات فرنسيين، وجاء بعده من تكلم عن تأثير الأدب الفرنسي في تجربته الإبداعية، ثم كان الخلاف حول ماركس الشيوعي والاشتراكي فانون، وسمعت أسماء سارتر وألبير كامو ورولان بارت وألتوسير، كنت أتأمل وجوه الحضور عندما كانوا يستمعون لواحد منا يتكلم عن الحركات الأدبية التي ازدهرت في الستينيات على يد آلن روب جرييه وميشيل بيتور وغيرهما. كنت أراقب الدهشة على الوجوه التي تحدق فينا باستغراب. من هؤلاء الذين يمتلكون الشجاعة ليتحدثوا عن الثقافة الفرنسية للفرنسيين؟!
جاء على الدور. كنت رابع المتكلمين. أصابني الخرس لحظة. عمّاذا أتكلم؟ كيف تدهش هؤلاء الذين أصابهم الملل، ودفع بعضهم إلى الإغفاء والتثاؤب؟ من أي نبع تنتح الماء؟ أنت ليس لك في المسائل العويصة التي طرحت. وسألت ما الذي يرغب في سماعه الفرنسيون؟ ما الذي يدهشهم؟ بلعت ريقي، وتأملت حالي. ورأيتها خارجة من المكان القصي للذاكرة، قادمة يجسدها الفارع. همست لنفسي. جدتي هانم؟! جاءت تأخذ بيدي إلى بعيد، إلى زمن عشته، وكوّن وعيي وحياتي؟! نبهتني إلى حكايتها مع الحيوان.
بلعت ريقي، وبدأت الحكي بلسانها داخل المحفل الفرنسي، قلت: «أنا كاتب مصري، أكتب عن قرية قديمة تعيش يومها بطقوسه وأحواله، مثلما عاشته في زمنها القديم. طقوس الميلاد. وترانيم الموت. وطلوع الصواني في الفرح والعزاء. والخصب والجفاف. تراتب الزمن والقراءة على أرواح الموتى حين تصعد إلى بارئها في يوم الأربعين. ضرورات العادة في وطن الضد وعشوائية الرزق. والصبر مفتاح الفرج. ورفقة الانسان بالحيوان حتى أنه يجاوره في السكن».
ولقفت نفسي، وجالت عيناي. بالصالة الصامتة. لم أعد أنظر إلا إلى وجهها تستحثني على مواصلة الكلام. عبر المكان والزمان. على شاطئ نهر وتحت ظل جميزة قديمة اجتثها المعتدون في زمن لاحق. صوت من قديم لا يعرف الأسى، يحثني، يخرج من الماء حاملا طقوسه.
واصلت الكلام عنها، وعن حكاياتها التي لا تفنى:
«كانت لي جدة، واسمها «هانم» علاقتها بحيوان الدار الأليف تثير العجب، طرفا في أحاديث الناس في البلد، وحكايتها بالحيوان الأعجم ما زالت تقال في البلد حتى اليوم. يعرفها الحيوان ويطلق صوتا حنونا مؤاخيا عندما يراها، يعرف رائحتها من بعيد فينادي حتى تأتي فيواصل لحس يدها بلسانه.
علاقتها بجاموسة الدار تثير العجب والغرائب، تلك الجاموسة لا تحلب إلا على يدها. تمد أصابعها وتتحسس الضرع وتشد الثدي، عند ذلك تنظر في عين الحيوان فيدفق اللبن بإذن الرحمن الرحيم.
الغريب في الأمر أن تلك البهيمة لم تكن تدر اللبن إلا على يد جدتي. لا يمكن أن تحلب إلا إذا تحسست يد الجدة ضرعها فينهمر اللبن، وأيام سفرها للمدينة ثلاثة أيام حدث العجب!!
امتنعت البهيمة عن الحليب، ومريوم، ويوم والجاموسة تدور في الحظيرة مثل مذبوح، ومعروف أن البهيمة اذا لم تدر اللبن يضربها وتموت مثل السيدة التي تفرغ لبنها اذا لم يرضع وليدها!!
أحضر أبي الحلابين من القرية، لا أمل هناك. جلست تحت البهيمة نساء الحرفة، ولا أمل يرتجى، وكلما أمعنت الجدة في الغياب اشتد ألم البهيمة التي تدور الآن على نفسها في حظيرة مضاءة بمصباح غازي، وبدأت تطلق صوتها في تألم وقد كسا عينها شريطان من الدم. اليوم الثالث والأب اتخذ قرارا واستدعى الجزار صارخاً:
– ناكلها لحم بدل ما تروح فطيس.
يوغل الليل، وتكبس الصدور الهواجس البدائية من غرائز مكبوتة، وناس البلد زحمة أمام الحظيرة، وبهيمة عند صاحبها أعز من ولده والجدة أمامي مثل روح هائمة تقف في المسافة بين الزحمة والبهيمة التي تدور على نفسها، وجدتي قادمة من بعيد مثل صوتها القديم، تبرز من الظلام إلى النور. الجدة «هانم» عائدة من سفرتها، بعودها الفارع وكبريائها، مثل شراع في ليل، تجاوزت الزحمة، وواجهت الخلق صارخة بعالي الصوت:
– هو فيه إيه؟!.. إيه زحمة الخلق دي؟! هو فيه إيه؟! الجاموسة مالها؟!
والصوت يتحسس عروق البهيمة فيسري حتى منابع اللبن وعلى الصوت انهمر اللبن من الضرع، يغرق الليل، وهامات الخلق، وشجر الشطوط، وحكايات الغرائب.
صمتُ لحظة وتأملت الفرنسيين وكأن على رأسهم الطير، وقلت: ان الكتابة عندي تقع في المسافة بين الصوت وانهمار اللبن. مرت لحظة، ثم انفجرت الصالة بالتصفيق وقد وقف الفرنجة مندهشين.
فيما كنت أنا أدعو لجدتي بالرحمة وسكن الجنان.
_______
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *