مهند النابلسي
خاص ( ثقافات )
تركن بلا رجال، شقيقتان وخادمة “عبدة سوداء”، في الأيام الأخيرة المرعبة للحرب الأهلية الأمريكية وانتصارالشمال الساحق على الجنوب، حيث يتوجب عليهن الاستبسال للحفاظ على حياتهن ووجودهن ومنزلهن، وللنجاة من الاغتصاب والقتل، وخاصة من ملاحقة جنود بيض متوحشين انسحبا من جحافل الشمال المتقدمة للمراقبة والتجسس… فيلم شيق من إخراج دانييل باربر، وتمثيل كل من بريت مارلنغ، هايلي شتاين فيلد وسام وورثنغتون (بطل آفاتار) وكل من مونا أوتارو وكايل سولر… يقتبس المخرج هنا أسلوبية الأخوان كوان بفيلم “ترو جريد” ويقدم دراما مشوقة وويسترن لافت يستعرض فيه الأيام الأخيرة القاتمة للحرب الأهلية الأمريكية، حيث “أوغستا” الجنوبية الشجاعة تواجه لوحدها جنديين ثملين متوحشين، تركا لممارسة النهب والاغتصاب والقتل والعنف… وبعد أن تهرب منهما بالحيلة وتنجو بمعجزة من القتل، تعود بالدواء للمزرعة المعزولة التي تشاركها مع شقيقتها المراهقة لوسي وخادمتهما السمراء ماد، وعندما يسعى الجنديان لتعقبها للاغتصاب، تقاوم النساء الثلاث بشجاعة وضراوة وتنجحن بقتل الجنديين، ثم يجدن طريقة للنجاة من زحف جيش الشمال المتقدم، تتمثل بتغيير ملابسهن والتمثل بملابس الرجال، للنجاة من بطش جحافل الشمال المتقدمة.
“يذهب الرجال للحرب وتتحمل النساء الأهوال”… هذا هو ملخص فكرة الفيلم البسيطة، كما يستند عنوان الفيلم الغريب لوجود “غرفة سرية” آمنة ظاهرياً، ولكن الوحش الشرير يكمن خلسة داخلها، فيغتصب صاحبتها مراراً… هكذا تروي “العبدة السوداء” القصة للفتاتين: فلكل “امرأة” وحشها الضاري الخاص بها، ولا بد من قتله والتخلص منه للنجاة من المصير المرعب القادم، كما يستهل الفيلم بعبارة غريبة تؤكد أن عنف ووحشية الحرب هي التي تقرر نهايتها السريعة الحاسمة!
يتضمن الفيلم مشاهد “أخاذة” فنياً، ولكنها تحفل بالوحشية والعنف، منها مشهد الفتاة المغتصبة الهاربة من عربة تجرها الخيول، حيث تلاحقها رصاصات القاتل المغتصب لتسقط بالحقل مضرجة بدمها، ثم نلاحظ نفس العربة وهي تحترق على مرتفع مع سائقها العبد الأسود، كما تستعرض المشاهد الحالكة عبدة بائسة تحمل رزماً من الأعشاب فوق رأسها تسير متهالكة لتواجه بكلب أسود ضاري ينبح بوجهها، ثم نشاهدها جثة هامدة بعد أن قتلها الجنديان… هكذا ومنذ البداية يضعنا الشريط بأجواء حالكة من “البؤس وانعدام الأمل” للنساء والعبيد على الأقل بانتظار مصير قاتم لا يرحم، ونعرف من حلم الفتاة أن رجلي العائلة “الأب والابن” قد ذهبا للقتال بلا عودة، وقد تعلمت النساء الثلاثة كيفية العيش والدفاع عن أنفسهن بهذا المنزل المعزول، حيث ينمن معاً بغرفة محصنة، وتقودهن “أوغستا” الجميلة بقوة شخصيتها، وعندما تمرض شقيقتها المراهقة لويسا وتجرح، تضطر أوغستا للذهاب إلى القرية المجاورة للبحث عن دواء، وتلفت بجمالها اليانكي القاتل “موسيس” الذي يلاحقها متربصاً…
تظهر رسالة الفيلم الواضحة برفض هؤلاء النساء لدورهن الاجتماعي المرسوم، ولسعيهن العارم للتمسك بالحياة والحفاظ على كرامتهن وانقاذ انفسهن في ظل ظروف “حرب” قاهرة واستثنائية، وقد ابدع المصور”مارتين روهي” بوضعنا بأجواء الأحداث، وقد انبهرت حقاً بمشهدين بانوراميين أحدهما ببداية الفيلم عندما نرى عربة محترقة يجرها حصان تخترق الأفق، ويقودها رجل أسود مقتول (قتله نفس الجنديان)، ثم ننتقل بالمشهد الأخير لمشهد بانورامي آخر خلاب عندما يسيطر جنود الشمال على المنزل والموقع، ثم نرى عن بعد الفتيات الثلاث، وقد “تهندمن” بزي جنود الشمال، وهن يهرعن بشجاعة للهرب والاختفاء…
يتناول هذا الفيلم (الذي لم يلفت الانتباه) ثيمة اضطهاد النساء والعنصرية المستفحلة تجاه السود بشكل درامي مدروس وبلا مبالغات “ميلودرامية”، ويتمثل ذلك بمشاهد القتل المتكررة، وحتى صاحب البار العجوز وابنته الجميلة وحصانهما فقد تم قتلهم بلا سبب واضح، هكذا ربما يبدو الأمر عندما تتغول شهوة “القتل والتنكيل” أثناء الحروب الأهلية الضارية، ويصبح فعلاً “اعتيادياً مجانياً”… وحتى الحصان الأبيض الجميل لم ينجُ من القتل، ثم نرى “زوج الخادمة” الأسود وقد عاد ناجياً من المعركة ليتأمل بصمت الجثث متعاطفاً مع الحصان الجريح الذي يتأوه فيطلق عليه رصاصة الرحمة… وعندما يدخل لمنزل الفتيات خلسة في الظلام، تقتله “أوجستا” اعتقاداً منها بأنه أحد الجنديين المطاردين، ولكن الخادمة السمراء تسامحها وترثيه بحزن كبير، ثم نرى الفتيات الثلاث وقد حفرن حفرة كبيرة ليدفن فيها الثلاث، “حيث ستذهب روح الرجل الأسود لمكان آخر” كما تقول زوجته الحزينة… هناك مشهد “رومانسي حزين” ومعبر بآخر الشريط يتمثل ربما بسأم أحد الجنديين (سام وورثنغتون) من لعبة الملاحقة وكثرة القتل وإعجابه بشجاعة أوغستا وربما تخيل “أنه قد وقع بحبها”، حيث نراه يتخلى طوعاً عن توجيه بندقيته باتجاهها إلى أشعارها بالأمان ولكنها لا تطمئن لحركته هذه المسالمة، فتبادر بقتله بعد ثوان بيأس وكأنها انجرت أيضاً للعبة القتل بدورها وفقدت الأمل، أجواء هذا الفيلم كما قلت ساحرة وشيقة وحزينة، وتذكرنا بمشاهد فيلم “ترو جريد” للأخوين كوان من حيث بلاغة السيناريو المتماسك وروعة التصوير ونمط الملاحقة المثير بظروف الغرب المضطرب.