*صالح العامري
• يحدث أن يكون الأطفال طاعنين في السنّ والألم والانهيار، حتى أنّ الحياة تصير مقلوبة تماما؛ إذ تقذفهم أرحام أمهاتهم شيوخاً وكهولاً وعجائز، ثم يتمرغون في الزمن الصلب المخادع، في الجرح الذي له هسيس الحيّات وأجراسها.
• يحدث أنهم ينضجون على صفيح الزمن الساخن، فيعودون أطفالاً، لكنهم يتلاشون في الصدأ، يختفون في غمّيضة كارثية، يسقطون في خدعة النهاية حين يبلغون في أحجامهم حبة السمسم أو الخردلة. إن دراجاتهم الهوائية تعود بهم إلى الوراء، وخطوات أقدامهم تعود بهم القهقرى إلى حفرة العميان، وهيئاتهم المسرنمة تمضي قافلة إلى اللحظة التي ضاعت فيها بذورهم في أرجاء الصراخ وأنحاء الأشباح والكوابيس.
• يحدث أن يكون حبنا للأطفال ليس صافياً أو خالصاً لوجه الطفولة، بل هو انتقامنا من الأزمنة المحدودبة التي عشناها، الأزمنة المحكومة بالعاهات، الأزمنة المتخثرة، الأزمنة التي تحاول جاهدة أن تصدمنا بقطاراتها السريعة وبروقها العدائية.
• يحدث أننا نحب الأطفال أو نتقرب إلى عوالمهم الخصيبة لأنّ الزمن يتسرّب من بين أصابعنا، ولأننا غير قادرين أن نستعيد الجذوة والجمرة الأولى إلا بالوقوف على حدودهم وخطوطهم، على هشاشة طباشيرهم ورهافة ألواحهم، على رقعة نزقهم، وجغرافيا شقاواتهم.
• يحدث أنني كنت أحمل طفلي ذا الأشهر الثمانية عند مدخل مطعم الطربوش، لأشتري فلافل وحمص، فأتعرف على صديق واقف هناك بالمصادفة، ما إن أتحادث وإياه قليلا، حتى يمد الطفل المشاغب يده خلسة إلى ذلك الصديق، مباغتاً وجهه بصفعة، مخلفاً حَرَجاً مُربكاً لا يستره الاعتذار مني أو تفهّم الصديق الطيب. يحدث أيضاً في هايبرماركيت الميرة، أن طفلتي الصغيرة، ذات الثلاثة أعوام، تكيل لي الصفعات الشديدة، أمام الملأ، حين أحاول إقناعها، عبثا، بأن تعدل رأيها عن شراء لعبة لا تتناسب مع عمرها. ويحدث أيضاً أن تصفعنا الكرة الأرضية، أنا وأنت، بألاعيب كائناتها المخزية، بحقارات تنابلتها وأغبيائها ومُرابيها، وأن يطيش على وجوهنا زنبركها المجنون وحصاد ديناصوراتها المنقرضة وخطب دجاليها ودناءات سماسرتها ووضاعات ديكتها المرقطة التي نراها على كل كرسي وعرش، وفوق كل مصطبة ساخرة وسور هزليّ.
• يحدث أن أجسادنا تتصلب، وأعضاءنا ترتعش، وأسناننا تصطكّ، وأن حُمّى قذرة تحاصرنا بضراوة، بسبب قط لم نره في الظلام ولا في الظهيرة.
• يحدث بأن نقع في خانة الذين يتم تصنيفهم بأنهم أولئك النفر الذين يُرَقِّعون الأزل بالأبد، ويَفْتِقون الوصل بالفصل.
• يحدث أن لا تسافر فترة طويلة، فتتقيّح أعضاؤك وتنتأ لك دمامل على جبينك المُهان. (كلّ دمّل يخطب ودّ الآخر، ويُشِيع الخسارة الطافحة، هكذا حتى يصير للجسد أنهارٌ خائرةٌ فيه).
• يحدث أن أرى خنفساءً أو جُعَلاً يتقلبان على ظهرهما، فلا أشفق عليهما لإعادتهما إلى الوضع الطبيعي، لأن الوضع الطبيعي قد يكون في هذا التشقلب والتقلب، أو لأنني أحدس بأنهما يفعلان تمارين صائبة بهذه الطريقة أو أنهما يتشمسان!.
• يحدث في اللحظة التي كنت أقول فيها: «أيتها الأرض الخفيفة، يا أمي ويا أختي ويا حبيبتي، ما الذي أبقوه من سيرة ينابيعك ودفقك وكنوزك إلا مقابر الأشباح وجماجم الموتى؟»، أن تتشكل الأرض على هيئة خازوق أو شوكة لا يمكن أن يهبط على أسنانها الحادة إلا القط الطيب (توم)، محاولاً الركض بعيداً عنها إلى غابة الصراخ.
• يحدث أن «تخرج الأرض أثقالها» وتصير «السماءُ وردة كالدهان»، وقلبي يخفق بشدة، وحصاني جافل، وقطتي تثرثر مع إدغار ألن بو، وجملي يقطر الزبد بين شدقيه وقد تدلى عنقه من الزجاج الأمامي لعربتي المرتطمة بشجرة الأبدية، وفيلي يحمل سِيد هارتا إلى شجرة التين العملاقة، ووحيد قرني يناولني قرنه ووعده الحانق ويدلف سريعاً إلى الغابة، وقردي المازح يطير في منطاد، وجحشي المرح يتقافز في قرية شاعر جميل. يحدث كل ذلك وأنا أرتدي القميص الذي نسجته لي بنيلوب، والقبعة التي أعارتني إياها مجنونة بروغل، والبنطال الهارب من سماء ماياكوفسكي، والحذاء الذي تركه فان جوخ معتكفاً في تغضناته وخيوطه التي تحلم بأصابع العمال أو آكلي البطاطس.
• كما يرى النائم، يحدث أن تداهمني صورة جهات الأرض الثماني، وهي تساقط سيولاً من الدموع والرماد والدمار والبحار واليابسة، بينما أرى قراصنة مسرفين في المرح والعته، يقودون الأرض من أنفها، أو يرفعونها من أذنيها، أو يعلقونها من عقبيها؛ وليمة سائغة للغربان والعقبان، يشوون منافيها، ويأكلون في شهية طيبة غبارها ودوارها وكائناتها التي تأكد أنها سلسة القياد.
• يحدث أن تكون تلك تلك الزرايات القماشية هي راياتنا في الكتابة، وتلك الأرملات المهجورات هي عرائسنا المشتهاة.
• يحدث أن يكون لنا أسمال بالية بالكلمات، يتقوّى جوهرها بغروب الشمس، حين نسمع دروب النساجين وحارات الدباغين ومناجم العمال وهي تصدح بأناشيد الأطفال أو أول الكتابة.
• يحدث أن قلب الشاعر هناك، بينما نبحث عن قلوبنا هنا. وأن لنا رئات مسافرة، بينما نحن مقيمون، ماكثون، في سفح الوادي!.
_________
*جريدة عُمان