اعتقني من جنّتك


*آسيا رحاحليه


خاص ( ثقافات )
“من الصعب أن تكون المرأة كاتبة (….)”
مليكة مستظرف.
على السطح تتشكّل فقاعات كثيرة، شفّافةلامعة. تتداخل. تتسارع. تنطفيء. تولد.
شنشنة الزيت ليست مزعجة حقا، فيها من الموسيقي، أو من إيقاع المطر !
المنظر يحيلها إلى بقعة ما داخل كرة رأسها الصغير. تبعثر الأصوات تركيزها، لكن صوت أعلى يحوم حولها، ملحاحا، مشاكسا. هل سأجعلها ترضخ و تبقى أم أجعلها تغادر في ليلة ظلماءَ ممطرة؟ لمَ الظلمة و المطر؟ حسنا، لكي يناسب الجوالخارجي إحساس البطلة الداخلي. جميل . قد أترك النهاية مفتوحة، أو أرّش بعض الغموض فوق السطور. قليل منه محبّب، يثير الشغب في أزقّة الفكر.
تقلّب حياة محتوى المقلاة بحركات آلية، بطيئة. تحاول التركيز حتى لا تندلق عليها. يصبح الطبخ وسيلة تعذيب و معاناة حقيقية حين تكون بانتظارك طبخةأخرى، أشهى و ألذّ !
تمعن في التفكير. “المطبخ مملكة المرأة ! “تهزّ رأسها. تبتسم في سخرية.
يسعدني التنازل طواعية عن عرشي مقابل ورقة و قلم !
مسلوبة الفكر، شاردة الذهن، تود الإنتهاء بسرعة لكي تدخل عالمها، عشقها، لعبتها الساحرة فوق الورق. تنحت من الأبجدية شخوصا،تنفخ فيهم المخيّلة ثم تلقي بهم في مسرح اللاوجود.
تراقبهم من بعيد و تصفّق !
لم تقرر بعد بشأن الرواية،لا بد أن تؤثّثها بحكاية حب كبير. متيقّنة أنّ العالم لايزال يدور حول الـ هُوَ و الـ هي ، و قصص العشقلاتزال تغري بالقراءة رغم تكاثر الصدأ على جنبات المشاعر، و تمرّغ الحب فوق أرصفةالكذب.
صعب أن تعثر على الفكرة وسط كل هذه الفوضى… رائحة الطبخ، آلام الطمث، رنين الهاتف، بكاء الرضيع، الجارة، صراخ الباعة في الخارج و… طلباته. تحسده أحيانا لأنّه رجل عادي، لا يحمل في جيناته جنون الكلمة.
– سأخرج. هل تريدين شيئا ؟
أريد أن أكتب !
– آه..نعم.. الحفاّضات للرضيع، شراب ضد السعال لعامر، و…و.. قبل أن أنسى، أترك لخديجة ثمن الدروس الخصوصية… اليوم آخر الشهر.
آفة تزامن ميلادها في حياتها مع بداية نزف قلمها ! صارت تنسى كثيرا.. الأكل على النار، الإتّصال بوالديها، مواعيد اجتماعات الأولياء في المدرسة، زيارات النفاق الإجتماعي. تنسى ذاتها أيضا حين يتخبّطها شيطان الكتابة فتنشغل بحرث الورق، و ترتيب قطع اللعبة ، و إغراق البياض في سيول من الخيال.
أريد أن أكتب.
أريد قهوة… ساخنة جدا.
أيّ سر يجعلك معشوقة و أنتِ سوداء و مرّة مثل الظلم ؟
تقرّر تجاهل الهاتفلكنه يرن بإصرار. يتصلون بها من العاصمة. دعوة لحضور ندوة أدبية حول الكتابة النسوية.
– بعد غد سأكون معكمبإذن الله…شكرا. إلى اللقاء.
بعد غد ؟ غير ممكن. موعد تلقيح ابنك الرضيع. بعد بعد غد ؟ غير ممكن…هل نسيتي أنّ زوجك مسافر في رحلة عمل لا تدرين كم ستدوم؟
بعد أسبوع ؟ بعد شهر ؟ سنة ؟ ربما سيكون ممكنا.
آخر ندوة شاركت فيها كانت منذ شهور. لاتزال الحوارات ماثلة أمامها، و ذكرى لقائها بأديبات جميلات ولجن مثلها دنيا الكتابة :
– زوجي غيور جدا… كلما جلست إلى طاولتي و أوراقي يحسّسني تعبير وجهه بأنني أواعد عشيقا !
– أنا كل نصأسرده يعتبرونه سيرة حياتي… ! حتى أنّني تراجعت في قصتي الأخيرة، و لم أجعل البطلة تقتل الرجل مخافة أن أُسجن بتهمة القتل العمدي بالسلاح الأزرق!
– أنا قرأت أنّ” مونيكا علي ” أوكلت طفليها إلى رعاية خاصة لمدة شهور لكي تتفرّغ لكتابة روايتها ” شارع بريك لين “.
– هل قالت لمن أوكلت زوجها ؟!
– بصراحة زوجي أنا متفهّم جدا، لكن سفري إلى أبعد من هذه المدينة لا يزال في قائمةالمحظورات !
-أما أنا فممنوعة من السفر. و قد احتاج الأمر الى ثورة لكي أكون هنا معكن !
– يمنعونك من السفر و يسمحون لك بالكتابة ؟!
-لا يمكن أن يمنعونني من الكتابة لأنهم أصلا… لا يقرؤون !
طرق على باب الشقة. تفتح حياة. تدخل جارتها نعيمة، تربطها بها علاقة جميلة. امرأة شابة و مثقفة، اضطرت للمكوث في البيت و الإهتمام بأطفالها. زوجها يحضّر رسالة دكتوراه بينما هي دسّت شهادتها وذكاءها و أحلامها داخل صندوقحديدي، ركنته جانبا و اكتفت بدور الكومبارس !
-الله….حياة…بيتك جميل، ما شاء الله… جنّة ! اللّهم لا حسد.
تشكرها حياة. تعزمها على قهوة و بعض الفاكهة. موز و تفاح أحمر.تروي لها نعيمة حكايتها مع التفاح و كيف أنّه أصبح في عرف زوجها دعوة غير صريحة لممارسة بند الإتفاقية !
– بعض الإيحاءات اعتدت عليها، لمسة، ابتسامة، نظرة مميّزة تطل من عينيه حين يتصادف و تلتقي أعيننا، و حين يشتري التفاح أتيقّن أنّ الرغبة حاضرة !
و تعلّق حياة ضاحكة :
– لعلّ آدم لم يتخلّص من اعتقاده الساذج بأنّ حواء أخرجته من النعيم. يغويها هنا بالتفاحة الـحلال لأنّها أغوته هناك بالتفاحة المحرّمة !
تنصرف الجارة بعد لحظات من الثرثرة الحميمة.
تحس حياة بالضيق فتقرّر الخروج.الأطفال عند والدتها اليوم. تلبس. تنظر في المرآة… ظلا من أحمر الشفاه. رشة عطر. تتفقّد صنّاع الفرح داخل حقيبة يدها…. دفتر و قلم .
تستقلّ طاكسي.
– شاطيء السّلام من فضلك.
تنتبذ مكانا قصيا عند نهاية الشاطيء. تجلس في حضرة نفسها. تخلع العالم. تتخفّف من الأصوات. تستغرق في السكون. لا تلقي بالا لعيون دغدغها الفضول، بعضها تغازل، و بعضها ترقبها بطرف خفيّ كما لو أنّها حيوان برمائيّ خرج للتو من الماء !
بدا البحر هادئا جدا و قريبا منها… جدا، على مرمى عناق.
السماء نفضت عن كتفيها بياض الغيوم و توشّحت بلون البحر.
رائحة الموج منعشة. تتغلغل في مسامات روحها. توقظ في نفسها شهوة البحّار للمغامرة و توق الأشرعة للريح.
لو أنّ للحرية رائحة لكانت رائحة الموج…دون شك !
تخرج الهاتف الخلوي من حقيبتها. تضغط على الحروف فتتشكّل الجملة… “زوجي العزيز من فضلك اعتقني من جنّتك ! “.
و تظلّ هناك، كفّها تحتضن الهاتف، و نظرها ساهم في الأفق، حيث بعض النوارس البيض تمارس الحب و الحرية.
____
*أديبة من الجزائر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *