*كاظم الواسطي
كان متذمّراً من زحام الظهيرة، بوجهٍ يُنازع قلقاً دفيناً في روحه، وعينين غائرتين أضناهما تعبٌ تعتّق تحت الجفون من نأي عبق الذكرى، وتراكم غبار السنين في الذاكرة.
كان مولعاً بالكيتار وعوالم الموسيقى حدّ العشق والجنون في فضاءاتها الرحبة، وعُرف عازفاً بارعاً بين صحبةٍ مغرمين بالنغم وصخب ليالي الديسكو، يوم كان لمدينته أجنحة ترفرف للفرح، وخفايا رفقةٍ تراوغ بطرب الروح بعض غيومٍ سوداء. وحيث يجلس وراء مقود سيارته القديمة، قدّم لي هاتفه الخلوي كما شهادة إثباتٍ لما كان يتحدث عنه بحسرة، وأراد به أن يندّي صدوع قلبه.. قال بتنهيدةٍ وإيماءة ودٍ جريحة: تصفّح.. خذ راحتك، ليس فيه صوّر خاصة.
كانت صور وفديوهات متنوّعة وثقّت حكايته التي كان يرويها بحسّرةٍ ونظراتٍ حزينة، حالما أستشعر التعاطف جليّاً، والفضول خالياً من التطفّل على ما يريد أن يقول: صورةٌ له شاباً بشعرٍ منسدلٍ على الكتفين يحمل غيتاره، كما باقة ورد، واقفاً على رصيفٍ مكتظٍ بالمّارة. وأخرى له بذات العمر وهو يقف على مسرحٍ شديدة الإضاءة مرِحاً بالعزف على كيتارة برفقة شابٍ، فارداً ذراعيه كما جناحين، كان يغنيّ.
وبعد تقليّب صورٍ عديدة لم تكن أيّ منها بلا رفقة كيتار أو صحبة شبان لهم ذات الإهتمام. توقفت عند صورّةٍ له كهلاً يعزف بين رجالٍ خطّ الشيب شعورهم القصيرة في صالة بيتٍ صغيرة. وحين التفّت إليه عارضاً لتلك الصوّرة، قال وهو ينظر إلى زجاج السيارة الأمامي “ماذا نفعل؟ هم ما تبقّى من أصدقائي القدامى، مازلنا نلتقي في بيت واحدٍ منا تسمح ظروف عائلته بذلك”. هكذا استبدلوا فضاءات المسرح المضيئة بصالة بيتٍ صغير لهم فيه ذكريات قديمة . بيتٌ لا يريدون له أن يزول مثلما هي الذكريات مضت بعجالة أزمنةٍ خاسرة. حدثني عن إعجابه بأغاني “البيتلز”، “بنك فلويد”، “بيجيز”، وكان مثاله في عزف الغيتار “أريك كلابتون”.
“كنتُ أحلم أن أكون عازف كيتار مشهوراً.. لكن!” توقف عن الكلام كما لو أن أية كلمات بعد هذه الـ”لكن” ستغلق حنجرته مثل غصّةٍ مفاجئة تدفع هواء الكلام دموعاً إلى العيون.
وحين أبديت دهشتي ما بين زمنين مختلفين، وإعجابي به مستمراً في الفضاء الذي يُحب، رغم قساوة الحياة في هذه البلاد التي ترسم مصائر بلون الرماد للأفراد ومواهبهم، زفر بعضاً من همٍ أثقل صدره.
كانت حكايته: بعد نهاية حرب الثمانينات الطاحنة للأجساد والأحلام، وبين فكيّ حصارٍ متوحش هرسا ما في البيوت والجيوب، وغزوة إيمانٍ كاذب أُغلقت نوافذ البهجة، وأوصدت أبواب العمل في نوادي النغم لمنع مسرّات النفوس التي نجت بالصدفة من ميتات الحرب. كانت السياسة تدّوزن أوتار الخراب، لتعزف على إيقاعات حروبٍ قادمة. بين حطام الأحلام ودوّامة البطالة، اشتغل عامل حدادة بثيابٍ مدهنّة، حيث كانت أنامله الناعمة تُلامس شيش الحديد المحمىّ تحت شعاع الشمس اللاهب، وحيث كيتاره ظل وحيداً وحزيناً، يلامس برودة الجدار.
“كان في محلتنا شيخٌ طاعنٌ بالسن والأناقة كثيراً ما أبدى إعجابه بولعي المفرط بالموسيقى وهو يراني دائما معلّقاً كيتاري على كتفي. ويوم صادفني في الطريق بملابس العمل الملطخّة بالزيوت بدون رفقة كيتاري قال: ستندم يا بنيّ كثيراً على ترك ما كنتَ تُحب “قال ذلك والتفت متأففاً إلى طابور السيارات الطويل بجانبه.
هو الآن على مشارف الخمسين، يقتاتُ من الذكرى ندماً موجعاً، ويفكر جديّاً كما قال بنوعٍ من الغضب والتوتر، وربما للترويح عن نفسٍ مضغوطةٍ بالإحتقان، بالرحيل من بلادٍ ضيّعت أحلامه، ولم تمنحه عملاً يحبه أو قريباً مما كان يطمح إليه، ولا حتى سكناً يُليق بكرامة البشر. “هكذا انتهيت إلى مجرّد سائق تاكسي لم أفكر أو أحلم يوماً بأن يكون هذا قدرٌ لي ومصيرٌ محتوم. والآن أسكن في شقّةٍ مستأجرة، قديمة ومتآكلة الجدران، مع زوجةٍ وإبنتين مراهقتين يقلقني جداً مصيرهما في هذه المعمعة التي لا أحد يعرف كيف ستنتهي”. بوجهٍ متعبٍ، وعينين ذابلتين من الخيّبات وفقدان الأمل.. يترّهلُ، الآن، مَن كان عازفاً متألق الروح، وحالماً في فضاءات النغم الجميل، حطاماً يتفتّت على حجر يومٍ أصم، داخل سيارة أجرة.
___
*العالم الجديد