*نزار حسين راشد
خاص ( ثقافات )
لا توجد متعة في العالم،تعادل متعة الفراغ والاستجمام،أنا أخطو خارجها مضطّراً،لأجل كسب العيش،وتوفير احتياجات الحياة,وكي أحصل على ما يُمكّنني من شراء المتعة مجدّداً,وملء فسحة الفراغ،بما توفّره النّقود من إمكانيّات.
نمط حياتي هذا،يحسدني عليه الآخرون،ولكنّهم لا يتجاسرون على تقليده،وها أنذا أنفث أنفاس نارجيلتي على شاطيء البحر،طارداً كلّ ظلالٍ للشك،حول أسلوب حياتي،الّذي يعدّه طفوليّاً،أولئك المتعلّقون بأهداب الحرص والخوف ممّا يُخبّؤه المستقبل.
أمارس حياتي بتراخٍ،وأستيقظ بعد الشروق،ورغم ذلك فأنا رجلٌ متديّن،أصلّي الفجر قضاءً رُبّما،ولكنّ ذلك لا ينقص من تديّني شيئاً!
لا زلتُ عازباً،وأفكّر في الزّواج على استحياء،رُبّما هو رهاب فقد الحرّية،الّذي يترتّب على الزواج!
رفعت بصري فجأة، منتشلاً عقلي من خواطري تلك،ليصطدم بصري بردفي امرأة بلباس البحر،لم تستطع طزاجة البحر العالقة بساقيها،أن تخفي معالم ترهُّل،في تلك المناطق الليّنة،التي يعدو عليها الزّمنُ بسرعة،راقبتها حتّى استدارت نحوي،ملامح وجهها توحي أنّها ربّما تجاوزت الثلاثين ببضع سنوات!حالها كحالي إذن،نحاول اصطياد الشّباب من البحر،الرّمز الأزلي للتجدّد!
حين ارتفعت حرارة الظهر،انسللتُ عائداً إلى غرفة الفندق،أدرت المكيّف وأنا مستلقٍ على ظهري بالشورت،نظرت إلى سيقاني المشعّرة،ولم أحسّ أنّها جزءٌ منّي،بدتا كجذعي شجرة قديمتين،استطالت حولهما الأعشاب،ضحكت للخاطر،ثُمّ انفجرت بالضّحك….علا طرقٌ ملحٌّ على الباب،لا بدّ أنّه خادم الغرف!لا،لا يمكن أن يكون خادم الغرف! لا يمكن أن يكون بهذه الوقاحة،إلّا إذا حدثَ خطبٌ ما!
قفزت من السرير،وخطوت إلى الباب بخفّة قط،طالعني وجه امرأة مخطوفة اللون،يكاد يقفز الفزع من عينيها،لم تمهلني حتّى جأر صوتها:
-أسرع ياأخي..أسرع..الطّفل.. يكاد أن يموت..لقد ابتلع شيئاً..سيموت.. سيختنق..قالت ذلك وهي تجري أمامي،وأسرعت خلفها
دون تفكير،واندفعت وراءها إلى داخل الغرفة..كان الطّفل جاحظ العينين،يجاهد ليخرج شيئاً التصق بحنجرته،دون جدوى..رفعته بسرعة،أوقفته أمامي،وضغطت براحة كفّي على أعلى معدته،وبدأت أضرب براحتي بقوّة ما بين كتفيه،مميلاً إيّاه إلى الأمام والأسفل،مستذكراً كل خطوات الإسعاف الأوّلية،بحرص بالغ على التسلسل،كما تعلّمته في الدّورة،ودون أن أبطيء من سرعة إجرائها،في تزامنٍ خاطف بين الذّهن والحركة…وفجأةً انقذف شيءٌ خارج فم الطّفل،مندفعاً بقوّة سهم!شهق الطّفل متنفّساً،أضجعته على جانبه،خفّ شحوبه وبدأ يستعيد وعيه شيئاً فشيئاً،لينطق أخيراً:ماما!
كانت الأمّ شاخصةً خلفي،وأنفاسها تلفح رقبتي،ورائحة أنوثتها تعبر خياشيمي!
التقَطَت غطاء رأسها من على الكرسي،ووضعته فوق رأسها كيفما اتّفق،وهي تهمهم بما لا أفهم،ثُمّ نطقت فجأة:
-أتعبناك معنا يا أخي!أنا وإيّاه وحدنا!ليس معنا أحد غير الله!جزاك الله كلّ خير!
أجلْتُُ نظري في الحُجرة،كانت عباءتها السوداء مسفوحة على الأريكة:-
قدّر الله ولطف،لا بدّ أنّ أباه ذهب في شأنٍ ما!
-لو كان له أب لما أصبحنا وهذه حالنا!
عباراتٌ ننطق بها تحت ضغط اللحظة،الّذي يدفعنا إلى البوح،بما لا نبوح به عادة.لم تلبث حتّى أردفت:
-الرجال يفرّون،ويتركون المسؤوليّة على أكتافنا،وكأنّ الرجل يتزوّج ليبدأ البحث عن امرأةٍ أخرى!
أدرت بصري بعفويّة نحو الطفل،كان في عينيه نظرة عتاب،أن تبوح أمّه بكُلّ هذا لرجلٍ غريب!
قلت وأنا أتهيّأ للانصراف:
-هوّني عليك،إنّها الأقدار تُصرّفُ حياتنا!إن احتجت إلى شيء فلا تتردّدي!
كافأتني بابتسامة،وكافأني الطّفل بابتسامةٍ أيضاً،لوّحتُ بيدي مودّعاً وهرْولتُ عائداً إلى غرفتي!
في اليوم التالي،كنت أجلس القرفصاء قِبالة البحر،متهيّاً للدخول في صراعٍ مع أفكاري كالعادة،حين شعرت بجسمٍ يلتصق بجسدي!كان الطّفل قد أجلس نفسه ملصقاً جسده بجسدي،ولم يتريّث ليعلن لي:
-أمّي قالت لي أن ألعب معك!
ألقى ببصره في اتّجاه أمّه الّتي جلست غير بعيد،ألقيت ببصري نحوها،كانت قد عطفت عنقها نحونا،فالتقت نظراتنا وهي تبتسم في حياء،وقالت مداعبة:
-إلعبوا مع بعض!لا أحد يبوق!
التفتُّ للطّفل مستفسراً:-ماذا تريد أن تلعب؟!
-أي شيّ!
-هل معك كرة؟!
-عندي كرة في الغرفة..هل أذهب لإحضارها؟!
-لا تتعب نفسك..سنشتري واحدة جديدة من الكشك!
-على حسابك أم حسابي؟!
– لا يهم!على فكرة من أي بلدٍ أنتم؟!
-من السعوديّة!
-آه لقد خمّنتُ ذلك!
انهمكنا في تقاذف الكرة داخل الماء،وواصَلتْ المرأة جلستها القرفصائيّة،شاملةً ساقيها بالعباءة،حتّى لا ينكشف شيءٌ من جسدها!
ما تحرص المرأة على إخفائه،هو ذاته الّذي تتلهّف على إظهاره،على نحوٍ ما!
تخيّلتها عارية،هل سيبدو جسدها جميلاً؟!السّمرة العربيّة النّحيلة،الجمال والشّباب،ستبدو جميلةً ولا شك،تجربة الطّلاق تجربة قاسية،في سنٍّ صغيرة وفي مستهل الحياة!
سحبني الطّفل من يدي إلى خارج الماء،وهو يحضن كرته ملصقاً إيّها بصدره باليد الأخرى،موجّها إيّاي إلى حيث تجلس أمّه!
لم تبد المرأة أيّ نوعٍ من الحرج،لا بدّ أنّها متحرّرة على نحوٍ ما!استقبلتنا بغبطةٍ بادية،واستفسرت بلهجة تنمُّ عن الرّضا التام:
-كيف عمل حمّودة؟ انبسط؟
-تمام الإنبساط،إنّه طفل رزين!
-لا يُحبّ الشقاوة!جدّي بأكبر من سنّه!بركات غياب الأب!
لا بُدّ لامرأةٍ في مثل ظروفها،أن تبدي بعض الحسرة!
قلت مستأذناً:لقد تعبت!سأعود إلى الفندق لأستريح،أراكم غداً رُبّما!
-إن شا الله!
-إن شاء الله!
تمدّدت على السرير،ولم ألبث حتّى نهضتُ،لأراقب البحر،البحر،وحيدٌ وفريد،رُبّما يتسلّى بالحياة الّتي تموج في داخله،دون أن يتدخّل فيها،إنّه المهد السحري للحياة،الأب الكبير،أمّا أنا فمشاهدٌ فقط،رُبّما أُمضي حياتي هكذا،متفرّجاً فقط!لا أجرؤ أن أنغمس في علاقةٍ بامرأة،أو أتّخذ صديقاً حميماً!عملي يضمن لي دخلاً،أستأجر به نافذة،أطلّ منها على الحياة،رُبّما أمضي عمري في تأمّل الحياة،من خلال نوافذ مستأجرة،كحال نافذة هذا الفندق!
صرنا نجتمع بتلقائيّة،في بكور الصّباح،وكأنّنا على موعد،حين يكون الشاطيء شبه خالٍ،إلّا من أشباحٍ متناثرة،من أولئك الّذين يفضّلون مثلنا طراوة الصّباح،وأنسامه العليلة!
حين ابتعد الطفل بخطواته قليلاً،لم أتمالك أن أهمس لها:
-أنت جميلة! جميلة فعلاً!
أطرقت بخجل،وقالت مغيّرةً مجرى الحديث:
-والدي سيحضر اليوم!دَزْنا قدّامه!مشاغل الرّجال كثيرة!
رّبّما كان حديثها إجابة عن تساؤلٍ قدّرَتْ أنّه مرّ بخاطري،لماذا هي وحيدة هكذا،أم أنّه للإيحاء بشيءٍما!قلت لها دون تردّد:
-لو حضر سأطلب يدك منه،كنت سأحدّثك في الموضوع،ولكن أنظري كيف تُرتّب الأقدار حياتنا! كنت قلت لك ذلك من قبل!هل ستوافقين؟!
أجابت مداعبة:-إنتظر حتّى يسألني!وحينئذٍ سأصمت ولن أجيب بشيء!
كان ذلك إجابة كافية،ولم أجد بأساً في أن نقضي معاً بقيّة ساعات النّهار،متعللين بالنيّة،في أنّنا سنصبح زوجين عمّا قريب!