*إبراهيم صموئيل
من هموم حياة الكاتب -التي تبدو صغيرة للبعض ولا تخطر على بالٍ لدى بعضٍ آخر- همُّ صدور كتاب جديد له، إذ بعد فرحته المؤقّتة وتقليب صفحات الكتاب، سيشرع في استعراض الأسماء المختزنة في ذاكرته لينتقي منها الضروري والأقرب لإهدائه نسخة من وليده الجديد.
وفيما يقوم بذلك، سيجد نفسَه داخل دوّامةٍ من دوائر تتوالد بلا توقّف؛ الأصدقاء يأملون بنسخٍ مهداة، والمعارف يتوقعون ذلك، وأفراد الأسرة بالطبع، والعائلة، والأقرباء مهما بعُدت درجة القرابة، والجيران في الحارة، والحي، والمدينة أو القرية، وصولاً إلى حدود البلد وفق درجة شهرة الكاتب!
إلى هؤلاء ستنضم مجموعات بشرية أخرى: الكتّاب زملاء المهنة من شعراء وقصاصين وروائيين وغيرهم، الصحافيون والإعلاميون (لتغطية الحدث!) بالخبر السريع أو المقالات والمراجعات، الدارسون والمتخصصون في شؤون الأدب والفكر والثقافة، طلاب كليات الأدب العربي في الجامعات الراغب منهم بالاطلاع أو العاكف منهم على إنجاز رسالة ماجستير أو دكتوراه.
وإلى من سبق سينضم المستشرقون والمستعربون من مختلف البلدان الأجنبية (مرة أخرى: تتسع الدائرة وتضيق بحسب شهرة الكاتب!) الذين قطعوا المسافات وسافروا إلى بلدان الكتّاب ليلتقوا بهم ويتحدثوا إليهم ويحصلوا على نسخ من أعمالهم الأولى، والأخرى الحديثة الصدور، وما بينها (علاوة على طلباتهم المتعلّقة بصور طبق الأصل عن المقالات والدراسات والحوارات التي كُتبت أو أُجريت، ولا بأس ببعض الصور الفوتوغرافية الواضحة!). وسيلتحق بمن سبق الضيوفُ والزوار -سواء للمرة الأولى أو المئة- ومعارف المعارف وأصدقاء الأصدقاء وأقرباء الأقرباء بلا حدود ولا نهايات حتى آخر السلسلة إن كان لها من آخر!
وحين يسافر الكاتب إلى أيّ بلد، لا بدّ له -بطبيعة العرف العربي- من أن يجمع، إلى جانب أغراضه الشخصيّة، عدداً من النسخ تقلّ أو تكثر حسب عدد معارفه ونشاطاته الثقافيّة هناك. إذ ستطالبه الجهة صاحبة دعوته بنسخ من المولود الجديد، كما من “الإخوة” الأسبق بالولادة، أو سيطالبه الأصحاب والمتعرّفون إليه حديثاً لتزيين مكتباتهم بتوقيعه العزيز.
والكاتب، إلى ما سبق، ليس لديه لتبييض وجهه مع الناس وتغطية عجزه المالي عن شراء الهدايا المتداولة اجتماعياً؛ سوى كتبه. فتراه يستلّ نسخاً من حصّته -بل يشتري في بعض الأحيان- ليعوّض بها عن الأزمات المالية الدورية أو المستدامة، بما يُريح الكاتب ويُرضي متلقّي الكتاب.
حتى بعد مضيّ عشرٍ أو عشرين سنة على صدور العمل، سيلتقي الكاتب بمَنْ يخبره أنه كان لديه نسخة من كتابه سبق واقتناها في الماضي ثمّ فُقدت من مكتبته الخاصة؛ ولذا يرجو منحه نسخة بديلة من الكتاب المعنيّ لضرورة المشروع الثقافي الذي يعمل عليه حاليا.. وكذلك سيلتقي بالكاتب العديد جدا ممّن يخطر في باله لقاؤهم، وممن لا يخطر له على بال.
قصص كتاب
عن هؤلاء الأخيرين، حكى لي كاتبٌ كيف أن زائرَين زاراه وهما يحملان نسختين من كتاب له، فشكرهما على اهتمامهما، وسارع إلى قلمه ليوّقع لهما إهداءً، غير أن الزائرين قالا مع ابتسامة عريضة: “لا! هذه النسخة اشتريناها شراءً، نودّ أن تهدينا نسختين منك بورقهما وحبرهما وخطّك لنتفاخر بهديّتك”.
وحكى كاتب آخر أنه دعا كل الأسماء التي يحتويها دليل هاتفه، والأخرى التي في ذهنه إلى حفل توقيع لكتابه الجديد كي يتخلّص من آفة إهداء الكتب المزمنة، لكنّ هذا لم يحل دون قيام بعض الخاصّة المقرّبين بمطالبة الكاتب بنسخهم المُفترض أنها محفوظة لديه، إذ لا يمكن أن يعتبرهم مثل عموم الحضور ممن يقتنون الكتاب.
وحكى كاتب ثالث أنه حدث، ولأكثر من مرّة، أن سُئل من مهتمّين ومثقفين، بل من كتّاب أيضاً، السؤال الملغز إياه: “أين نجد كتابك لنشتريه؟!” في غمز لائمٍ صريح، عسى أن “يحسّ على دمه” فيخجل من تأخره ويُعاجل إلى إهدائهم من مكتبته الخاصة، مع شيء من اعتذاره عن هفوته هذه.
وهكذا، يجد الكاتب العربي نفسَه -من دون كتّاب الغرب، على ما أعتقد- مُلزَماً بالاحتفاظ بنسخ يفوق عددُها أضعافاً مضاعفة عمّا تقدّمه له دُور النشر العربية، ويوازي ثمنها -أو هو يزيد أحياناً- المكافأة المالية التي يحصل عليها جراء نشر كتابه، وبعد هذا كلّه عليه أن يكون سعيداً مبتهجاً لأنّ أعماله تنال اهتمام قرّاء على هذه الكثرة والحميّة.
ورغم كلّ ما سبق، فثمة ملفّ ليس في إمكان الكاتب تناسيه أو التغافل عنه أو إهماله -لا قدّر الله- يتعلّق بتأمين نسخ على عدد الصديقات والحبيبات (وما أكثرهنَّ!) اللواتي -وقبل أن يعلمن بصدور الكتاب- لا بدّ أن تكون نسخهنّ في حوزتهنّ بكل تأكيد.
____
*الجزيرة