*إبراهيم صموئيل
هل حقاً يحكم الكاتب على نفسه بالحصار والوحشة والإهمال ومن ثمَّ “بالموت” البطيء لو هو اعتكف في مسكنه، وعزف عن الأضواء، ونفر من اللقاءات التي تجري في المقاهي والنوادي والملتقيات العامّة والشارع الثقافي خاصة؟
في الغالب يكون الجواب: نعم! فالحضور والظهور والمشاركة في اللقاءات هنا وهناك في “الشارع الثقافي” يُلمّع اسمه ويُذكّر الناس به ويفتح أمامه الفرص ليغنم منها إذا عرف كيف يقنص إحداها بذكاء ومهارة، يقول مجيب، ويضيف: أن الإنتاج الأدبي لذلك الكاتب, في الغالب الأعمّ, لا يكفي وحده، مهما كان بديعاً، لتقديمه والتعريف به ومنحه موقعاً في صدارة نشاطات الحياة الثقافية.
لا بدّ للكاتب من حراك إذن. منْ تعلّم الصيد. من إجادة تبادل المنافع. من “التقاطها وهي طائرة” وفق قول المثل. لا بدّ أن يجيد الترصّد والترقّب والاقتناص.. إذ بهذا يكون حاضراً في الملتقيات والمنتديات وفي مقدّمة قوائم الدعوات. ومن دون هذا لن ينال سوى الدعاء بالتوفيق, وطول العمر, والاستمرار بالكتابة.
وفقاً لوجهة النظر هذه، الأدب الجيد لا يفرض نفسه لمجرد سويته الرفيعة فقط، وإنما يحتاج أيضاً إلى التسويق والترويج وخبرة الانخراط في العلاقات العامة مع المؤسسات والمنابر والهيئات الثقافية. والكاتب لا يكفي أن يكون كاتباً جيداً, ونقطة على السطر. عليه أن يفتح الخطوط والممرات والمعابر, ولا بأس من بعض الحنكة والدربة.. وما إلى ذلك.
“موهبون” ورهبان
يسوق أصحاب هذا الرأي أمثلتهم من حال أنصاف وأرباع الموهوبين الذين تمكّنوا -بفضل مهارتهم في إقامة العلاقات العامة والخاصة- من شدّ الاهتمام إليهم وحيازة أكبر عدد من الدعوات لهم ورواج أسمائهم، بل تولّي البعض منهم المسؤوليات في أكثر من مؤسسة ثقافية ومنبر.
أهذا ما يجري على الأرض, بصرف النظر عن قبولنا أو رفضنا؟ بلى. أهذا هو حال العمل بالثقافة, على غرار حال العمل في أيّ حقل آخر؟ بلى أيضاً. بيد أن للمسألة وجهاً آخر، أو حالاً أخرى لا بدّ من الإشارة إليها, والتوقّف معها، ولو لمحاً.
وهي أن ثمة كتّاباً وفنانين أشبه بالمتصوفين والزهّاد والرهبان، أو هم أشبه -كما يحلو للبعض تسميتهم- بالمجانين الحالمين الذين لا يفقهون شيئاً من منطق عصرهم وزمانهم، فيميلون في طباعهم وتكوينهم إلى الانكباب على أعمالهم انكباب النسّاك على طقوسهم، ومنح أنفسهم بالكامل لإبداعهم وللتأمل فيه والعمل على تجويده، وكذلك بثّه ما في أرواحهم من طاقات ورؤى وهواجس، من دون الانشغال بدعامات إنتاجهم وحوامله الخارجية.
بالطبع، هؤلاء ليسوا جاهلين, وإنْ كانوا نسّاكاً. وليسوا غافلين, وإنْ كان انكبابهم يتركّز على حقول شغفهم. يعلمون بالسباقات والتنافسات الجارية لحيازة المراكز الأولى تحت الأضواء والشهرة، ويستمعون إلى الحكايات التي لا تنتهي عن أفانين الترويج والتسويق, والطرق السريّة للوصول السريع، و”المواهب” الفريدة في القفز والتسلق والتملّق ونسج الشللية وغير ذلك..
بيد أنه ليس في سمات شخصيّتهم ما في شخصيّات أولئك الموهوبين في إقامة العلاقات والجسور والدهاليز. ولا هم يسعون لتعلّم واكتساب أفانين هذه السمة, وممارستها. إنها لا تغريهم, ولا تجذبهم. وكذلك لا ترضيهم, ولا تغضبهم. ولذا نراهم في حالة اعتكاف مع شغفهم عن عمد, وليس سهواً منهم.
خيانة الذات
هل يحتاج المقام, هنا, إلى أمثلة من سِيَرِ كتّاب وفنّانين ومفكّرين كثيرين, أم أنه عاينّا وعرفنا في عصرنا الحاضر -كما هي الحال عبر التاريخ- ما يكفي من القصص والحكايات عن هذا النوع من المبدعين الذين يرون ما يحدث, ويعرفون السبل والطرائق والكيفيات, بيد أنهم، لهذا السبب أو لتلك الأسباب، عاشوا وأبدعوا, منذ قرون مضت إلى يومنا الحاضر, ونفوسهم تعفُّ عن مقاربة هذا المسلك؟
بشيء من الموضوعيّة, وبعيداً عن أحكام القيمة، ثمة مبدعون لا يرون أن العلاقات العامة والخاصة هي السبيل للوصول والظهور. وإنْ رأوا, فهم لا يجيدون ممارستها ولا يتقنون صناعة جسورها. وإنْ حاولوا, فعلى الأغلب، سيفشلون. وإنْ نجح البعض القليل منهم بعون المصادفات، فإنهم لن يتمكّنوا من الاستمرار تحت وطأة الشعور العميق بخيانة ذواتهم وأرواحهم وما عاهدوا أنفسهم عليه. وثمة مَن هم على العكس.
وبهذا المعنى, هل نكون إزاء مواكبين لمنطق العصر ومتخلّفين عنه؟ هل نحن إزاء من يرى أن النتاجات الأدبية والفنية إنما هي بضاعة, في نهاية المطاف, تحتاج إلى دعامات من خارجها وإعلان وإعلام وتسويق وما شابه ذلك.. وإزاء من لا يرى هذا ولا يلتفت إليه ولا ينشغل به، بل هو يتفرّغ بالكامل لقصته أو روايته أو لوحته أو موسيقاه وليس سوى ذلك.. وبذا يكون، بالضرورة، كمن يحكم على نفسه بالحصار والإهمال و”الموت” البطيء؟ لنفترض صحة ذلك. ولكن, ما الذي نجنيه من مثل هذا الاستخلاص؟!
_______
*الجزيرة.نت