الكاتب الجريح


*عبده وازن

كان جمال الغيطاني غزيراً في ما كتب. أغرته فكرة أن يكون كاتباً شاملاً فطرق ميادين شتى، من الرواية إلى القصة فالمقالة فالتحقيق او الريبورتاج وأدب الرحلات والتراث المعماري والمحاورات والتصوّف… وغزارته لم تعنِ الاستسهال والتسرّع فهو كان ينتقي موضوعاته بتؤدة لا سيما الموضوعات التاريخية، فيشبعها بحثاً وتنقيباً ثم يمعن في تدوينها أو سردها. كان الغيطاني في رواياته ونصوصه التراثية الطابع، راوياً ومدوّناً على غرار المدونين العرب القدامى، لكنه عندما يتطرق إلى القضايا المعاصرة، يستحيل روائياً حديثاً. وهو نجح في الجمع بين هاتين النزعتين، فكان وفياً للتراث كل الوفاء ومنفتحاً على الحداثة كل الانفتاح. ولئن طغت بضعة أعمال على سائر نتاجه ووسمت حرفته الكبيرة وربطت اسمه بها، فهو برع في بضعة أعمال هامشية لم تنل حقها في النقد والإعلام على غرار الأعمال الشهيرة. قيل دوماً إن الغيطاني هو صاحب «الزيني بركات» وقيل عنه مؤلف «التجليات» و»دفاتر التدوين» و»هاتف المغيب»… لكنه إزاء هذه الأعمال، كتب قصصاً جميلة ومنها بلا شك مجموعته «مقاربة الأبد» وهي لم تخلُ من هاجسه الصوفيّ ونزعته الميتافيزيقية.

تذكّرت هذه المجموعة عندما بلغني نبأ رحيل الغيطاني. إنها من الكتب القليلة التي أحبها لديه. هذا رأيٌ شخصيّ؟ ربما. في قصص هذه المجموعة التي تدور في جو المستشفى وجراحة القلب المفتوح بدا الغيطاني كأنه يكتب عمّا يشبه الموت أو يجاوره. يحضر الموت هنا كفكرة أو كحالة تحدث في الروح والمخيّلة. ويحضر أيضاً كهاجس ينتاب الكاتب الذي يكتب عن نفسه كما لو أنه يكتب عن إحدى شخصياته. فهو في هذه القصص – الشهادات ينتقل من الضمير المتكلم (الأنا) إلى الضمير الغائب (الهو) منتقلاً من ما يشبه المونولوغ الذاتي إلى السرد الذي يتداعى عبر كلامه كراوٍ يتقنُ فنّ هذه اللعبة.
في لحظة إعلان رحيل جمال الغيطاني كان عليّ إذاً أن أتذكّر للفور كتابه «مقاربة الأبد» الذي كتب فيه تجربة مواجهة الموت أو مقاربته كما يوحي العنوان. فهو عبر تلك القصص القصيرة يروي «الهاجس» الذي عاشه قبل المثول أمام مبضع الجراح وبعده، في جراحة القلب المفتوح التي خضع لها، وهو خرج إلى الحياة شخصاً آخر أي شخصاً يعيد اكتشاف الحياة والماضي وربما العالم أيضاً. والقصص شهادات حيّة يكتبها القاص والروائيّ من غير كلفة: عفويّة تامّة في السرد والوصف والتداعي. ولغة بعيدة كل البعد عن الاصطناع تلامس العامية في أحيان وتمعن في كسر النموذج اللغوي وصولاً إلى قول ما تبغي قوله عن العزلة أو الخوف أو الألم أو الحيرة. غير أن خيطاً خفيّاً وظاهراً في الحين عينه يربط بين القصص أو اللوحات والمشاهد هو خيط الحالة الأليمة التي يقاسيها الكاتب بصفته كاتباً جريحاً. حالة غامضة هي حالة مَن يقف على الحافة: الضوء أمامه والهاوية وراءه. بل هي حالة مَن يعيش لحظة الوداع ولحظة العودة معاً.
هذه القصص التي كتبها الغيطاني تحت وطأة هاجس الموت وصف فيها نفسه كما لم يصفها من قبل: في المستشفى أو على سرير الجراحة أو بعد الجراحة أو قبلها. سلسلة متواصلة من الصور والذكريات والتداعيات والأطياف. وحيال هذه السلسلة راح يكتشف جسده الذي يُهيّأ للجراحة وكأنه يكتشفه للمرة الأولى. بل هو يكتشف ذاكرة هذا الجسد و»المخيّلة» الكامنة فيه. تحت الماء ينتعش الجسد وتنهض فرائسه. يصبح الماء حافزاً على الحياة والموت. واللحظات تلك هي أشدّ اللحظات وحدة وعزلة. الباب مغلق، صوت الماء المنهمر يملأ أذنيه والبخار المتصاعد يشبه ضباب الموت. وفي تلك الغرفة الصغيرة والمغلقة يكتشف الكاتب نفسه كما لو أنه يرى نفسه من خارج نفسه أو عبر عينين أخريين. وفي تلك الغرفة أيضاً لا بدّ من تذكّر الأم وتأمّل يديها عندما كانتا تدعكان الجسد – الطفل بالماء والصابون. والكاتب هنا في اللحظة السرديّة هذه ليس سوى ذلك الطفل الذي كانه في ماضٍ غير قريب. ولا يخفي الكاتب، سواء في سرده أم في تداعياته، تلك الرغبةَ التي كانت تنتابه من حين إلى آخر على سرير الجراحة وكيف كانت تحتل الممرضات عينيه وأحلامه القصيرة.
هل عاش الغيطاني حين دخوله المستشفى للمرة الأخيرة والتي لم يخرج منها إلا ميتاً، لحظات الوداع التي كان عاشها قبل دخوله المستشفى قبل نحو خمسة عشر عاماً عندما خضع لجراحة القلب المفتوح؟ كانت تلك اللحظات مِن أرهب اللحظات التي أجاد الغيطاني في التعبير عنها. نظر إلى ما يحيط به وكأنّه يكتشفه للمرة الأولى خافياً خوفَه من عدم رؤيته ثانية. نظراته المبدّدة إلى النافذة كانت تخفي أيضاً الكثير من الألم والحيرة. وفي تلك اللحظات التمعَ في عينيه جزء من ماضٍ: بضعة وجوه وبضعة أسماء راح يسترجعها بغية أن يودّعها. وفي تلك اللحظات الرهيفة والأليمة جداً عاوده هاجس الوقت فشعر أنه يحتاج إلى المزيد من الساعات والأيام والليالي… «إنها الأبدية… إنها الأبدية» يكتب جمال الغيطاني. لا أدري هل عاش الغيطاني مثل هذه اللحظات قبل وقوعه في حالة الغيبوبة التي لم يصحُ منها؟ هل عاش هذه اللحظات الرهيبة الأليمة والحادة؟ هذه اللحظات الصادقة والعارية والتي على قدْر كبير من التوهّج والاختمار؟ هل واجه الكاتب نفسه قبل الوقوع في الغيبوبة كما واجهها سابقاً، وحيداً وأعزل، خائفاً وحائراً، متألّماً بصمت، متخبّطاً في هاوية الجسد وضوء الروح؟
قد لا يمثّل كتاب «مقاربة الأبد» إلا جزءاً يسيراً من تجربة الغيطاني الكبيرة ومحطّة صغيرة من محطّاته الجمّة، على رغم احتوائه ملامح من عالمه الصوفيّ والماورائيّ. لكنه كتابٌ آسر وعميق وقد أولاه صاحبه اعتناء في الصياغة مبتعداً عن حالات الفيض اللغوي والسردي التي عرفتها أعماله الأخرى. في لحظات مواجهة الموت لم يكن الغيطاني مأخوذاً بالإطالة والاستفاضة ولا مغرقاً في متعة الكتابة الهادرة كماء النهر. كان مقتضباً وملتمّاً على نفسه مثل لحظة الموت نفسها.
_______
*المصدر: الحياة

شاهد أيضاً

ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات في الدول الغربية؟

(ثقافات) بمناسبة افتتاح معرض لندن للكتاب 2024: ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *