عوائق حرية الإبداع


*سعد القرش

في الذكرى العاشرة لرحيل الشيخ محمد الغزالي، ،2006 شهدت مصر واقعة أضاعت 47 عاماً من “الجهاد” في سبيل منع (أولاد حارتنا) . طبعت الرواية في القاهرة . نشرت الرواية مسلسلة في “الأهرام” ،1959 ولم تسجل آنذاك واقعة ارتداد أي من قرائها عن الإسلام، إلا أن الغزالي كتب تقريراً تسبب في عدم طبعها في كتاب، وكنا نستقبل نسخاً بيروتية توزع سراً، وهو تواطؤ ثلاثي . . نجيب محفوظ اشترط موافقة الأزهر لنشر الرواية، رموز التشدد الديني أرضى عدم النشر كبرياءهم وتأكد لهم نيل مكافأة “الجهاد”، من يرغبون في القراءة وجدوا دائماً إلى الرواية سبيلاً .

كان سليمان فياض يعمل في وزارة الأوقاف سكرتيراً للجنة (الدفاع عن الإسلام) مع السيد سابق ومحمد الغزالي، وفي إحدى جلسات تلك اللجنة “قدم الشيخ الغزالي ورقتين معدتين من قبل يستعرض فيهما (أولاد حارتنا) من زاوية الاتهام وحدها . . كانت الإدانة لأولاد حارتنا في غيبة من الدفاع والمتهم . ومنذ ذلك الحين وقصة التكفير والاتهام بالإلحاد لا تتوقف” .
ولكن عام 2006 لم يشهد ارتداد مسلم عن دينه بسبب إتاحة الرواية، وقد صدرت بمقدمة عنوانها “هذه الشهادة” لأحمد كمال أبو المجد، أما كلمة الغلاف الأخير فكتبها محمد سليم العوا “الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” كما عرف نفسه .
لو حسنت النيات، واحتكم أحدهم إلى العقل، وأعاد النظر فيما يعتبره مسلمات مقدسة، لاتخذ من (أولاد حارتنا) سبباً للتخلي عن الإرهاب باسم الدين؛ فالرواية التي خشوا أن تتسبب في بلبلة عقيدة المسلمين تباع على الأرصفة . هذا يدعوني للنظر إلى أن الإرهاب الديني، في بعض جوانبه وأسبابه، مجرد مهنة، “أكل عيش”، وإلا فماذا سيقول سادة الإرهاب لو مارس المبدع حريته، وخلوا بين الناس والإبداع لكي لا يظل رهين المحبسين . . رقابة المبدع ذاته، ورقابة لاحقة تمارسها السلطة والمجتمع، إرهاب ديني ونفاق اجتماعي .
تكفي (أولاد حارتنا) لتتبع منحنى العلاقة المرتبكة بين الإرهاب الديني والإبداع .
ويكفي الاستشهاد بالغزالي، بطل الواقعة، لنعرف كيف تنسف المسافة بين أقنعة التسامح وحقيقة التشدد، حين يختبر “الكلام” في ضوء تجربة يخشى البعض منها على العقيدة، أو على “أكل العيش” .
في 1951 خرج الغزالي من الإخوان، واستنكر أن يعتبر الإخوان أنفسهم “جماعة المسلمين”، وفي صباي قرأت كتبه، رأيتها آنذاك عنواناً للوسطية والتصدي للتنطع باسم الدين . ولكن موقفين خدشا تلك القشرة .
في مطلع 1992 قال مأمون الهضيبي، المستشار ابن المستشار، مرشد الإخوان، في مناظرة “مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية” في معرض القاهرة للكتاب: “نحن نتعبد لله بأعمال النظام الخاص قبل الثورة” 1952 . كان محمد أحمد خلف الله وفرج فودة يمثلان التيار المدني، في مقابل الهضيبي ومحمد عمارة والغزالي الذي لم يستنكر التصريح . وبعد ستة أشهر، 8 يونيو، قتل فودة . قتله شابان بعد فتوى بكفره . وفي شهادة الغزالي في المحكمة أدان الضحية، وقال إن فودة “كافر ومرتد . . . ويجوز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان في هذا افتئات على حق السلطة، ولكن ليست عليه عقوبة”، وأوضح أن خطأ الشابين ليس قتل الرجل الأعزل، بل افتئاتهما على القيام بما يجب على السلطة أن تقوم به .
في أكتوبر 1994 حاول إرهابي ناشئ قتل نجيب محفوظ، ولكن الذبح لم يكتمل . ثم زاره الغزالي في المستشفى، ودار كلام ومجاملات، وألقيت أمام الشيخ كلمة (أولاد حارتنا)، وأنها رائجة رغم المنع، فقال بخشونة: المخدرات أيضا تجد رواجاً . . كان السياق يقتضي أن يقول قولاً ليناً .
اللين قام به عبد المنعم أبو الفتوح حين زار نجيب محفوظ، وحثه على طبع (أولاد حارتنا) في مصر، فاتهمه الإخوان “في عقيدته . . . اعتبروا ذلك خروجاً على العقيدة، وخطب عبد الستار فتح الله سعيد في مسجد إخواني يتهمه في عقيدته، بل رفضوه بسبب نقده لأفكار سيد قطب” .
بعد الحكم بتفريق نصر حامد أبو زيد عن زوجته، استجابة لدعوى حسبة تقدم بها مواطن، انتقلت الوصاية/ الحسبة، بعد عشرين عاماً، من الأفراد إلى النيابة . ونصت المادة 67 من دستور 2014 على أنه “لا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة”، وهذه ردة على ثورة رفعت شعار الحرية قبل ثلاث سنوات .
كتب علينا أن نعيد تكرار الخطايا، وعدم تجاوز قفزات ومراحل قطعها العقل البشري، نحو نور الله، هذا النور هو العقل، حتى أخشى إعادة مشهد حرق برونو (1548 – 1600) حيث سيق إلى النار، بعد سجن واستجواب دام ستة أعوام، وقبلها ظل يبشر بالحرية، رافضا أن تكون لأي هيئة “حق في أن تعين للناس تفكيرهم” . وقال لكهنة المحكمة: “لعلكم أيها القضاة، وأنتم تحكمون بهذا الحكم، تحسون بالفزع والرعب أكثر مما أحس أنا عند سماعي له” . وبعد 300 سنة على الجريمة، بكاه البابا، وأقيم له تمثال في المكان الذي أحرق فيه . 
____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *