محمّد محمّد خطّابي*
خاص ( ثقافات )
الكاتب الغواتيمالي أوْغُوستُو مُونطيرُّوسُو في ذّكرى ميلاده 94
اعتبُرتْ قصَصُه القصيرة من أجمل ما كُتب في الأدب المعاصر
في الحادي والعشرين من شهر ديسمبر (كانون أوّل) المنصرم (2015) حلّت الذكرى الرّابعة والتسعون لميلاد الكاتب الأمريكي اللاّتيني الكبير أوغوستو مونطيرّوسو (من أصل غواتيمالي، المولود في الهوندوراس في 21 ديسمبر 1921، والمتوفّى في 7 فبراير بالمكسيك 2003)، الذي يعتبره بعض النقاد سلطان السّخرية في آداب أمريكا اللاتينية بدون منازع. ولقد خلق هذا الكاتب من الخرافات والأساطير قصصاً اعتُبِرت من أجمل ما كتب في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر، وعليه يجمع مختلف النقاد في العالم الناطق باللغة الإسبانية في ذات السّياق أنّ مونطيرّوسو يُعتبر من أقطاب كتاب القصّة القصيرة في الآداب المكتوبة بلغة سيرفانتيس في العالم.
اعتمد مونطيرّوسو في كتاباته القصصية مثلما هو عليه الشأن مع صاحب “الألف” الأديب الأرجنتيني الرّاحل خورخي لويس بورخيس على بعض الخرافات، والأساطير، والحكايات، والمرويّات، والقصص الغريبة، ممّا جعله يخلق له عالماً أدبياً متميزاً خاصاً به، يقوم على النقد اللاذع، والملاحظة الذكيّة الدقيقة لبواطن الأمور. ومعاني قصصه ومضامينها مستقاة ومستوحاة في معظمها من الأمثال السائرة، والحِكم المأثورة، والأشعار البليغة، بل ومن صلب المجتمع ذاته، إنه يحوّل كل ذلك إلى نصوص آسرة تقوم أساساً على السخرية المرّة من مظاهر الحياة ومفارقاتها، وتشرّح المجتمع بمبضع دقيق.
السّرد القصصي..
يقول الكاتب المكسيكي المعروف “خوان رولفو”: “القصّة القصيرة هي ضربات فأس هنا وهناك، وعمليات مراجعة وحذف، وإضافة، وطرح وجمع، والقصّة لها فرصة واحدة في الزّمان والمكان، وحظها يتقرّر في الحين مباشرة بعد مرحلتين: كتابتها ثمّ قراءتها. فأيّ طلب أو تعديل أو إضافة أو وصيّة لاحقة أو تنميق أسلوبي لا جدوى منه”. (انظر مقالي في” القدس العربي” حول هذا الكاتب بعنوان “خوان رولفو: صانع العجلات المطّاطية الذي ارتقى إلى مصافّ سوفوكليس” العدد 7286 الإثنين 19 (تشرين الثاني) “نوفمبر” 2012.
قال عنه معاصروه
يقول عنه الناقد الإسباني “إيتالو كالفينو”: “إنّ القصص التي خلفها لنا مونطيرّوسو تعتبر بدون شكّ من أجمل القصص في العالم، لقد كان هذا الكاتب ظاهرة فريدة لا تتكرّر في الآداب الإسبانية، كان بارعاً في الإيجاز المُوفى والاختصار البليغ”.
وتقول عنه الكاتبة الإسبانية المعاصرة “أنا ماريا ماتوتي”(الحاصلة على جائزة سيرفانتيس، أعلى تكريم في الآداب الإسبانية): “لقد كان مونطيرّوسو شخصية فريدة في بابها، كان شخصاً استثنائياً في عالم الأدب، كان مولعاً بالسخرية والتهكمّ اللاذعين، كلماته وتعابيره في قصصه كانت تبدو وكأنّها شعر منظوم، فلا زيادة ولا نقصان، ولا حشو ولا إطناب، إنه كان يقول الكثير باستعمال القليل من الكلمات، فقد كان مقلاًّ في كلامه، مثلما كان مقلاًّ في كتاباته وهيئته، كان قميئاً سميناً وكان لون وجهه ورديّاً مثل الأطفال”. ويقول عنه الكاتب الكولومبي الكبير ألفارو موتيس: “لقد تعرّفت على مونطيرّوسو عام 1956 عندما وصلت الى المكسيك، كان كاتباً جيّداً ومتفقهاً في اللغة الإسبانية، كنا نمضي ساعات طويلة ونحن نستمتع بقراءة دون كيشوت لسرفانتيس، لقد أعجبت بأسلوبه الأصيل الذي يطبعه الوضوح والمرح، ويتميّز بالمرونة والنفاذ وعدم الالتواء، كان معروفاً بأسلوبه الشخصي، لدرجة أنه في إمكان القارئ الجيّد أن يميّز أسلوبه حتى وإن لم يكن اسمه مكتوباً إلى جانب عمله الأدبي”.
ويشير الكاتب البيروفي “ماريو بارغاس يوسا” (نوبل في الآداب) الذي يعرف مونطيرّوسو منذ سنوات عديدة: “كان رجلاً لطيفاً طيّب المعشر، إنه واحد من هؤلاء الكتّاب القلائل المعاصرين الذين أعتزّ بمعرفتهم. كان متواضعاً يميل للسّخرية وهو معروف بتضامنه وتعاطفه مع العسيفين، والكادحين، والمستضعفين، والمهمّشين، اشتهر بكتابة نصوص أدبية موجزة إلا أنه كان يجعل من هذه النصوص على صغرها وقلتها تتفجّر بالأفكار والمعاني الكبيرة، وقد خلّف لنا عالماً أدبياً متميّزاً خاصاً به انطلاقاً من القصّة القصيرة جدّاً بالذات”.
أما الكاتب المكسيكي الراحل ” كارلوس فونيتيس” فيقول عنه: “كان مونطيرّوسو معروفاً بجمالية نصوصه، بل لقد كتب أجمل النصوص في الآداب الأميركية اللاتينية في القرن العشرين، فما كان يتطلب منّا كتابته في مائة صفحة كان مونطيرّسو يوجزه في عبارة واحدة”.
لغز الديناصور
واشتهر مونطيرّوسو بأنّه كاتب أو صاحب أقصر قصّة قصيرة جدّاً في العالم، وهي تحت عنوان: “الدّيناصور” وهي كما يلي: (عندما استيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك…)!
وهي قصّة على قصرها وصغرها، وإيجازها الشديد تجنح بفكر القارئ، وتثير فضوله وتطلّعه، وترخي العنان لخياله في عالم الرموز والإيحاءات والمجاز. وقد كتب عنها الشيء الكثير بمختلف اللغات، كما قيل في حق هذه الأقصوصة أنّ تفاسيرها ومجازاتها لا حصر ولا حدود مثل الكون ذاته، وهناك أقصوصة أخرى عنوانها “المهاجر” يزعم بعض النقّاد (وهم قلّة) أنها أقصر من قصّة مونطيرّوسو وهي للكاتب المكسيكي “لويس فيليبي لوميلي” وهي كما يلي: (هل نسيتُ شيئا؟ أتمنّى). “ولكنّ معظم النقاد الثقات (وهم كثر) يجمعون أنّ هذه الأخيرة لا ترقى إلى مستوى وعمق ورمزيّة أقصوصة “الدّيناصور” التي طبّقت شهرتها الآفاق.
الزّرافة التي أدركت أنّ كلَّ شيء نسبيّ!**
ونقدّم للقارئ نموذجاً لقصصه القصيرة، وهي بعنوان: “الزّرافة التي أدركت أنّ كلَّ شيء نسبيّ” (من ترجمتي عن الإسبانية)، وهي كما يلي:
(منذ زمن بعيد، وفي بلد ناءٍ، كانت تعيش زرافة ذات قامة متوسّطة، كان بالزرافة غفلة، إذ خرجت ذات يوم من الغابة وتاهت، فلم تدر أين تسير ولا أين تتّجه، فصارت تمشي على غير هدى من هنا إلى هنالك، حاولت البحث عن طريق العودة فلم تهتد إليه، وهكذا، ظلت تتجوّل في أرض الله الواسعة، حتى وجدت نفسها في فجّ بين هضبتين حيث كانت تدور رحى معركة حامية الوطيس. على الرّغم من أن عدد القتلى كان مرتفعاً في الطرفين، لم يستسلم المتحاربان، ولم يسمحا بالتفريط في سنتيمتر واحد من الأرض التي كانا يذودان عنها. كان الضباّط يحثّون جيوشهم على الصّمود والاستمرار في القتال بضراوة، والسيّوف مرفوعة إلى أعلى، في الوقت الذي كان الثلج يكتسب اللون الأرجواني بدم الجرحى.
وبين تصاعد الدخان، ودويّ المدافع وضجيجها كنت ترى الموتى يتساقطون في صفوف الجيشين الذين يسلمون الروح لباريها في كل حين.
الأحياء كانوا مستمرّين في إطلاق النار بحماس منقطع النظير، وهكذا حتى يأتي دورهم هم الآخرون في السقوط، إلا أنهم كانوا في تلك اللحظات يضعون في حسبانهم أنّ التاريخ سوف يذكرهم بفخر الأبطال، لأنّهم كانوا يهبون أنفسهم دفاعاً عن شرف علمهم، أخذ التاريخ بالفعل إقدامهم وشجاعتهم بعين الاعتبار، وكان عادلاً، فقد حكم وقضى بالقسطاس لصالح الطرفين بأنهم أبطال، إذ كلّ طرف كان يكتب تاريخَه الخاص، وهكذا أصبح “ويلنغتون” بطلاً مغواراً بالنسبة للإنجليز، وأصبح “نابليون” بطلاً مقداماً بالنسبة للفرنسيين.
استمرّت الزّرافة في المشي، حتى وصلت إلى جانب من الفجّ حيث كان هناك مدفع كبير.
وفي تلك اللحظة ذاتها انطلقت رصاصة طائشة مرّت بالضبط على بعد عشرين سنتيمتراً من رأسها من الجانب الأعلى، وعندما رأت الزرافة الرصاصة تمرّ بالقرب منها، وبينما كانت تتابع بنظرها طريقها، فكّرت وقالت:
الحمد لله الذي لم يخلقني طويلة القامة أكثر ممّا أنا عليه، إذ لو كان عنقي يزيد ثلاثين سنتيمتراً فلا بدّ أنّ الرصاصة كانت قد أصابتني في رأسي. والحمد لله كذلك على أنّ هذه الجهة من الفجّ، حيث كان يوجد المدفع، ليست منخفضة أكثر ممّا هي عليه، إذ لو كان انخفاضها يقلّ ثلاثين سنتيمتراً لكانت الرّصاصة قد أصابت رأسي، ثم أردفت قائلة: الآن فقط فهمت أنّ كلَّ شيءٍ نسبي)…!
ومونطيرّوسو حاصل على جائزة” أمير أستورياس الإسبانية في الآداب”، هذا كما سبق له أن حصل على “جائزة خوان رولفو”، التي تعتبر من أكبر الجوائز الأدبية في الآداب الأميركية اللاتينية والكاريبي. بالإضافة إلى جوائز أدبية أخرى عالمية عديدة.
• غرناطة.
• كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا – كولومبيا.
** هذه الأقصوصة مُدرجة ضمن كتابي” عدالة الهنود.. وقصص أخرى (ثلاثون قصة قصيرة من الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر)” (أنطولوجيا القصّة القصيرة في أمريكا اللاتينية) الصّادر عن المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة) عام 2000 بالقاهرة.