*د. شهلا العجيلي
تقول مارغريت دوراس (1914- 1996)، الكاتبة الفرنسيّة، وربيبة مستعمرات الهند الصينيّة (فييتنام)، والحائزة على جائزة غونكور عن روايتها “العاشق” 1984: لابدّ من أن يمتلك الكاتب بيتاً ليصنع وحدته. وتشرح أنّ الوحدة لا يتمّ العثور عليها، إنّها تتخلّق كجزء من النصّ، لا شرطاً له فحسب، وهي التي تخلقه أيضاً، وحينما يفقد الكاتب وحدته يضطرب نصّه، وهذا سيبدو واضحاً.
يمكن أن أصف مقالة دوراس بأنّها في منتهى العمق، بل لعلّه االسرد النفسيّ الاجتماعيّ الأكثر طلاوة لعمليّة الكتابة، وقد وضعتها دوراس عام 1993، وظهرت مؤخّراً بترجمة الصديق الدكتور أحمد المديني وتقديمه تحت عنوان “أن تكتب”. متن المقالة تسع وعشرون صفحة، بمقدّمة نقديّة بالغة الأهميّة. تقول أيضاً عن الوحدة التي تجبر العالم على الامتثال لها حين تكتب: “كان معي رجل خلال هذه الفترة، إنّما لم نكن نتكلّم. فبما أنّي كنت أكتب، توجّب الحديث عن الكتب، وهذا ما لايتحمّله الرجال، لا يتحمّلون امرأة تكتب.”! اسمحوا لي أن أتدخّل هنا وأشكر أزواج الكاتبات، وعشّاقهنّ، وأصدقاءهنّ. وأن أشكر زوجي أوّلاً!
تتحدّث دوراس عن بيتها المكوّن من أربعمئة متر، الذي تمكّنت أخيراً من شرائه في قرية فرنسية هي (نوفل شاتو)، إذ يطلّ على حديقة بديعة، وتنفتح بوّابته على الطريق الذي يؤدّي إلى باريس. هذا البيت هو المعادل النفسيّ لمجموعة مؤلّفاتها، وهو الذي أنتجت فيه روايتيها “نشوة لولا ستاين”، غاليمار 1964 و”نائب القنصل”، 1965 غاليمار، وغيرها من الكتب التي استعادت فيها طفولتها ويفاعتها هناك في المستعمرات البعيدة، حيث تعشق الأوربيّة البيضاء شاباً أصلانيّاً ثريّاً، وتقف الرؤية الكولونياليّة في وجه ذلك العشق، لتنتج أعمالاً روائيّة ندرسها نحن في ضوء كتابات فرانو فانون، وإدوارد سعيد، وبيل أشكروفت…
لقد احتفظ بيت (نوفل شاتو) بآثار المحتلّ النازيّ، إذ عاشت فيه عائلة ألمانيّة خلال الحرب العالميّة الثانية، ودوراس تكره النازيين، وتتعاطف مع دموع اليهود، وتجد أنّ نشوة الكتابة تعادل نشوة أن تقتل الأمّة الألمانيّة حتى آخر نازيّ وهي ذاتها نشوة أن توجد في مخبأ وقت الحرب فتبقى على قيد الحياة! البيت الفرنسيّ إذن يحمل شبح الحرب، حينما كان الفرنسيّ محتلّاً، والبيت في سايغون يحمل وصمة الاستعمار حينما كان الفرنسيّ مستعمِراً، وهكذا هو العالم الآثم، لا يستقرّ على قلب للظلام، كما يقول كونراد، فالاستعمار انزياح، وفي كلّ الأحوال لابدّ من بيت للكتابة، لكتابة الرواية تحديداً. ربّما يشتبك ذلك مع نشأة الفنّ العربيّ، إذ لم يقم العربيّ بالتدوين حينما عاش في الصحراء، فالشعر شفاهيّ، لأنّ الشاعر نشأ في خيمة، واخترع البيت فكان (بيت الشعر) استعارة للتعويض عن المفقود! كذلك هي الحكايات بنت الخيمة، في حين صارت الرواية بنت البيت، بنت الاستقرار والمدينة، والمكتبات.
الحروب الجديدة شرّدت الروائيّين، ذهبت بيوتهم ومكتباتهم، وبقيت لهم جذور مصنوعة من الذاكرة. أحد الروائيين قال لي: أسست مكتبتي أربع مرّات، في كلّ استراحة تهجير أصنع مكتبة، الكتب ذاتها اشتريتها مراراً. أنا أيضاً فعلت ذلك…
في الكلام على الذاكرة تشير دوراس إلى أنّ اقتناء بيت جديد تدريب على النسيان، نسيان أحزان الطفولة. إنّها تستطيع أن تفعل ذلك، حينما يشرف على هذا التدريب صديقها عالم النفس الشهير جاك لاكان. لقد كان يساعدها على نسيان حقيقيّ لا مؤّقّت… الله وحده يساعدنا نحن على النسيان.
دوراس تريد بيتاً وعلاجاً نفسيّاً لتنسى ما تسمّيه الدموع الحقييّة، التي هي دموع شعوب الفقر. وتقصد المستَعمَرين في سايغون، واليهود الذين اضطهدهم الألمان، فما شكل البيت الذي نحتاجه لننسى دموعنا في بلاد العرب، أو لنتمكّن لنتمكّن من الكتابة عنها؟ وهل هو في لندن أم في باريس أم في برلين؟ بحديقة؟ بنافذة على شارع؟ أم في شقة مشتركة بلا نوافذ حيث لا تتوافر الوحدة! وهل الكتابة عن موت الضحايا تشبه موت الذبابة الذي راقبته دوراس في لحظة ساديّة، فوصفت تلك العمليّة التي استغرقت سبع دقائق، بحساسيّة مستفِزّة!
القراءة التي قام بها أحمد المديني لتجربة دوراس التي تحوّلت إلى محكيّ شخصيّ، ثمّ محكيّ متخيّل، قراءة بالغة الأهمية، لا سيّما للمهتمّين بنظريّة ما بعد الاستعمار، إذ أضاء على رؤيتين متعارضتين منحتا العالم حساسيّة جديدة للتعبير، عبر صورة الأناقة والحذلقة الدبلوماسيّة أمام مشاهد المجذومين في الهند، وهم يتسلّقون جدار بيت السفير للحصول على الطعام. صورة أقرب إلى صور رعاة الحروب، والحلول الدبلوماسيّة أمام اللاجئين في الخيام وعلى أبواب السفارات. في محور آخر تسدي دوراس نصيحتها قائلة: “لا ينبغي للنساء أن يطلعن عشّاقهنّ على ما يضعن من كتب”! بقي أن أقول إنّ مقالة (أن تكتب)، صدرت حديثاً عن دار أزمنة في عمّان، 2016.
___
*عمّان.نت