الشلال ولعبة المطر


*د. محمد ياسين صبيح


خاص ( ثقافات )
لا يليق بك ان تبقى مقيداً بشاربك الكبير أو بطقمك البني الفاخر فهذا سيجعلك تكبت الخوف من استجداء عنقود عنب من مزرعة يغازلها الغيم، أو استعارة قلم رصاص من غابة محروقة لكتابة ذكرياتك التي ثقبتها الريح التشرينية المحملة بالعيون الناقصة من النهار، والتي لن يقرأها أحد ربما، ولن ينفعك الجلوس في الحديقة العامة قرب البحر تراقب النوارس والبواخر المغادرة أو القادمة والمحملة بروائح عطور باريس، فعطرك نسيت عبقه ولم تستطع أن تقول لجارك العطار أن يجلب لك بديلا، فرائحة الزواحف ومن يجاورها من المعتوهين، تملأ ساحة الإعدام وقت خلوها من المدعوين، كالنحات الذي يضع إزميله في كهف قبيلة نمل دون أن يدرك أن المرأة التي نحتها تصرخ كلما نسي موضعه كي يستكمل تشكيل نهديها.. فحبيبتك التي تشغل الآلة بلباس الشحم والزيت لن تغريك البتة، إلا بعد سهرة بفستانها المزركش بالدهشة والرغبة، عند ذلك لن تسمع بطائرات تحمل مساعدات فاسدة، توزع على أناس لا يستحقونها، ومن يستحقها، يرسم على أوراق الكرتون الفارغة أشجارا كانت في حديقته يوما، ثم يضحك من فوره قبل أن تلتهمها نيران القلب، الذي تركه عند بائع الألوان عندما لم يستطع تكحيل عينيّ ابنته بعلبة فرح من عيدان الصمت الأجرد..
فلا يليق بك أن تقفل بابك اليوم، لأن القفل لم يعد له شكل، فكل الليالي أشكاله، بما فيها عتمة ذاك الكتاب الذي لم تقرأه يوما ولم تركب ظهر كلمة غريبة يوماً.. فقط وضعت أمام حديقتك فواصل ونقاط عارية من حبات المطر غير المرئية التي، لم تخرجها يوما من قوقعة اللون الداكن كرؤيتك للقضايا العالقة والساخنة والساكنة واليابسة والبحرية. فالزوارق لا تعمل بقوة الشفق ولا بنسيان الأفق. إنما يرسمها مغامر خبر نهود الصبايا في مرافئ النشوة، عندما لم يصل إلى العظمة، لأنه غير بوصلته النحاسية إلى بوصلة من عشق ولهفه مغامرة جديدة.
حقا ما هذا البناء الحجري الضخم الذي يستند ظهرك إليه في حديقة البحر؟ إنه تابوتك قبل ثلاثة آلاف عام، عندما نحته في حلمك الثاني، في غفلة من حراس السلطان، فلا تستغرب بأنه لن يقبلك اليوم، لأنك قد تسقط في عراء إلى بريتك وحيدا، دون أن يغسلك المطر الحقيقي. 
الفرق هو أنك تنحت اليوم شجرتك بحب لترى جمالاً مجهولا فيها، وتنحت صخرتك، لتبقى لك رمزا لجمالك وليس كما كنت قبل ثلاثة آلاف عام، تنحت لأنك يجب أن تضع لولديك مدفنا يليق بهم .
إنما الآن أنت تصنع مدفناً يليق بك أنت فقط، كقوقعة حلزون مجهول الهوية، أو كجبار هرب من حوت في المحيط ليلقى مصيره على شاطئ حقير مجهول بينما تلقي قصيدة عارية عن الحب والشوق والحنين بين زرق السلاحف والسرطانات.
فهل أضحى نجاحك كشلال من الصفعات أو الشتائم كي ترى أن البحر لا ينضب إذا غادرت شاطئه حزينا هرباً من المطر الصيفي؟ أم تعتقد أن المطر سيكف عن الهطول إن لم تجد الشلال في صحراء عقلك الممتلئ بخواء العظمة والسراب؟. فلا بد لك أن تجلس إلى خيالك يوماً كاملاً، إلا من متاهات الصباحات الضيقة، التي تغلف ضجرك البائس بشاطئ صغير وصخرة عالقة في ذاكرتك التي تنتظر قرارك..

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *