رواية “الكافرة” ذاكرة العنف الشرق أوسطي


*كمال الرياحي



تجربة أدبية عراقية تكبر وتتراكم في بروكسل ببلجيكا، منشغلة بالتاريخ العراقي القديم والحديث، لصيقة بأسئلة راهنة. ذلك هو ملخص التجربة الروائية لعلي بدر الذي وصفته الصحفية الأميركية ماري وايميل بأنه “أفضل من يؤرخ في رواياته للتواريخ الهامشية وللقصص المهملة”.
لمسنا ذلك في رواياته “بابا سارتر” و”شتاء العائلة” و”الوليمة العارية” و”ملوك الرمال” و”الطريق إلى تل مطران”، وغيرها من الروايات التي لاقت ترحيبا عربيا وأجنبيا من خلال عدد من الجوائز والترجمات، آخرها ترجمة “بابا سارتر” إلى الفرنسية عن دار “لوسوي” العريقة. “الكافرة” هي آخر أعماله الروائية، صدرت عن دار المتوسط ونفدت طبعتها الأولى في شهر لتظهر الثانية.
بلغة شفيفة تسرد الرواية حكاية فاطمة، المرأة العراقية التي عاشت الويلات في مناطق نفوذ المتشددين الذين أجبروها على خدمتهم بعد أن فقدت والدها في عملية انتحارية وانطلاق زوجها الفاشل إلى ملاحقة حلم أخير في الحصول على سبعين حورية عبر ما سماه “الاستشهاد”، لتسقط من جديد في يد المتشددين الذين زوجوها بمقاتل منهم فتحينت الفرصة للانعتاق وهربت إلى بروكسل كما تهرب الممنوعات من الحشيش والسلاح، غير أن المهرّب لم يكن أفضل من الذكور السابقين ليغتصبها في الطريق.
في المنفى تحاول فاطمة -التي أصبحت “صوفي”- أن تعيد حياتها من جديد، غير أن ثقل ذاكرتها الحية بتاريخها المكلوم تدفعها إلى الانتقام من الذكور، فتقلب معادلة حلم زوجها الذي قدم حياته قربانا لسبعين حورية تنتظره، فتعمل على إسقاط سبعين رجلا في حبائلها، إلى أن تسقط في حب أدريان.
كتابة بالدم
عبر شخصية صوفي التي تروي لأدريان ذكرياتها، يكتب لنا علي بدر أول مقاربة روائية لامرأة ما بعد السبي أو ما بعد النجاة. ومن وحي امرأة سلفادور دالي في لوحته الشهيرة، يكشف لنا علي بدر كل مرة تاريخا أكثر فظاعة للمرأة المستباحة في الشرق الأوسط، ليلمح أن المأساة الحقيقية لمن عذبوا ونكل بهم في الحروب أو تعرضوا إلى الاغتصاب والعنف تبدأ بعد نجاتهم، حتى لو كان بحصولهم على حق اللجوء في أعتى أراضي الحرية والديمقراطية الغربية.
ولأنها لا تستطيع التخلص من ذاكرتها المثخنة بالمحن والكوابيس، ظلت صوفي طوال الرواية تؤكد توقد ذاكرتها وقدرتها على تذكر حتى أدق التفاصيل من طفولتها. يمثل جسد صوفي في الرواية طرس كتابة لسيرة المرأة في مجتمع ذكوري يكشف عن توحشه وعدائيته للجسد الأنثوي ساعة تسقط الأنظمة والقوانين الرادعة، فيعود إلى جاهليته الأولى في ثوب التشدد الديني.
ولم تكتف فاطمة/صوفي بسرد قصتها، إنما فاضت ذاكرتها بمن عرفت من إناث أخريات، فعادت بها تلك الذاكرة إلى صديقة طفولتها التي أجهز عليها أبوها بصخرة بعد أن علم أنها تعرضت للاغتصاب من ابن جارهم.
وتعرج صوفي على سيرة أمها وتستعيد صوتها ورجاءها الوحيد لزوجها ألا يوجه لها الضرب على وجهها، وكأنها بذلك تستسلم لواقع العنف الذكوري فتهمس “لا تضرب على وجهي” وتردف “البنت نائمة، لا أريدها أن تسمع”، ويصر الزوج المخمور أن تتركه يضربها على وجهها في حالة من النزق للعنف والإيلام.
هكذا يصف لنا علي بدر -عبر صوفي التي لم تكن إلا ذريعة- الفظاعة الذكورية في أعتى تجلياتها عبر ممارسة حق العنف المادي كما تعتقد، وبهذا يكون علي بدر قد حفر في تاريخ العنف الموجه ضد المرأة وجسدها لا لتبرئة المتشددين بل لكي يقول إن هذا العنف قد تربى قبل وصولهم بقرون ومهدوا له لكي يشتد فظاعة.
عنف واستشراق
الكافرة، رواية إدانة العنف المسلط على المرأة من الطراز الأول، وهي بذلك وليمة استشراقية ولا مرد من انتظار كاتبها لتهم كثيرة من قبيل الإغرابية (إكزوتيك)، ولكن الرواية من جهة أخرى لا تقول سوى الحقيقة التي أصبحت الشاشات والتسجيلات على اليوتيوب تعرضها.
تبدو هذه الرواية ضرورية في هذه اللحظة من نواح كثيرة، منها الانتباه إلى شخصية الضحية أو اللاجئ الناجي الذي قد يتحول إلى شخصية انتقامية إجرامية يصنعها الإرهاب في فضاءات أخرى نتيجة ما لحقها من تشوهات نفسية وما تعرضت له من مآس وعذابات محت وجهها الحقيقي.
فمغادرة الفضاء الجحيمي لا تعني النجاة، لأن الضحية قد تحول بانتكاستها الفضاء الحميمي إلى فضاء جحيمي آخر لتواصل اللعبة. وهذا ما تعكسه شخصية أدريان القادمة من ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية، تلك الشخصية التي تشي الرواية في قسمها الأخير بأنه الوجه الذكوري لصوفي، فكلاهما ضحية العنف الديني والطائفي الذي ورطهما في عقيدة الانتقام والثأر. ليتسع مفهوم العنف الذكوري اليوم ليكون ذهنية متسلطة على الرجال والنساء على حد سواء.
_______
*الجزيرة

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *