*لينا هويان الحسن
«الحياة السرية» كتاب اعترافات سلفادور دالي الذي صار اسمه علماً على السيريالية. في هذا الكتاب يُفشي دالي تعلّقه بالطعام وافتتانه بالمطابخ وعلاقته بغالا التي علّّمته كل شيء، هل دالي عصابي أم مجنون أم عبقري فحسب، أم هو كما عبر «أنا السيريالية».
«الحياة السرية»، كتاب يُفشي أعمق الأسرار التي شكلت شخصية سلفادور دالي المثيرة للجدل والتي رسخت مكانته في تاريخ الفن الحديث. فشهرته كانت مرتبطة بشخصية دالي الاستعراضية وإفراطاته «العصابية»، ومع السنين صار دالي من التطابق مع السريالية بحيث يمكن القول إن السريالية في ذهن الجمهور هي ببساطة سلفادور دالي. ويقيناً أن الطبيعة الإلهامية لصور دالي ما بين 1929 و1939 كانت الأكثر فعالية في عصرنا.
مذكرات سلفادور دالي التي حملت عنوان: «الحياة السرية»، صدر حديثاً عن دار الحوار، قام بترجمته متيم الضايع.
إذا كان أندريه بريتون قد اقترح: «ولاءً للحماقة، للأحلام، للمشوَّش، للغلوّ بكل ما هو مناقضة للمظهر العام للواقع»، فإن دالي هو الذي قدّم لحركة السوريالية المساهمات التصويرية التي رسخت تعاليم هذه الحركة، أيضاً أكدت التصاق دالي بالسوريالية.
دالي، يبحر في عوالم طفولته المبكرة، حيث يؤكد لنا بنفسه أنه كان خيالياً على نحو شاذ، منهمكاً انهماكاً أنانياً بملذاته الخاصة، عارضاً بشكل ساخر تهوره وعنفه الانحرافي، والتي لم يتردد في التبجّح بتفاصيلها الصميمية في مذكراته.
هو أول من استغل بإصرار كشوفات فرويد والتحليل النفساني: «إن حياة الإنسان التخيّلية كلها تميل إلى أن يُعاد بناؤها رمزياً عبر أكثر الحالات والصور تطابقاً، والتي تستهل بالحالة الفردوسية، بشكل خاص، للتغلب على ما يسمّيه دالي: «رضّ الولادة» المرعب الذي يطردنا من الفردوس، مروراً على عجل بتلك الحماية المثالية والبيئة المغلقة، إلى كل تلك المخاطر المرعبة الناجمة عن العالم الجديد الواقعي، مع الظاهرة الملازمة للاختناق والضغط والعمى الناجم عن الضوء الخارجي المفاجئ، والخشونة الهمجية لواقعية العالم الذي سيبقى منقوشاً في العقل تحت إشارات الألم والذهول والامتعاض».
الطعام
لقد كان الطعام واحداً من وساوس دالي دائماً. إنه يتكرّر بتواتر في سيرته الذاتية: تبدأ المقدمة بـ «في سن السادسة أردت أن أكون طباخاً». وكلمات مثل «محار»، «الحفش»، «كافيار»، «عظام»، «آكل لحوم البشر» استخدمها دالي بكثرة لوصف أفكاره ولوحاته ورسمه. هاجس «الطعام»، قاده لرسم بورتريه لغالا بشرحتَيْ لحم ضأن على كتفيها. وكان طبخ الديك الرومي بدون ذبحه واحداً من ابتكاراته المطبخية، وقد تصوّر ذات مرة فكرة القيام بصنع مائدة من بياض البيض، بحيث يمكن أكلها. إنه يُصرّ: «الطبخ ذو صلة وثيقة بالرسم». لعل معرفتنا أنه تربى في منزل برجوازي يعتبر فيه الدخول إلى المطبخ أمراً معيباً وغير لائق، فكانت من متع طفولته تسلله وهجماته المتكرّرة على الخادمات في المطبخ: «كنت أحوم حول المكان لساعات ولعابي يسيل، حتى أجد فرصة أتسلل فيها إلى ذلك المكان الساحر، بينما كانت الخادمات يقفن بابتهاج ويصرخن، كنت أخطف قطعة لحم نيء أو فطراً مشروماً أكاد أختنق بها، لكنني كنت أشعر بطعم مدهش مسكر لا يمكن أن يمنحني إياه سوى الخوف والإحساس بالذنب».
بصراحة مدهشة، أحياناً تدعو للتقزز، يقودنا دالي عبر دهاليز روحه المشوّشة بالعبقرية الحبيسة في دماغ مراهق، نراه وهو يُطرَد من المدرسة، ويتحدّث بإسراف كبير عن قصص حبّه غير المكتملة، وفصله من كلية الفنون الجميلة في مدريد، رحلته إلى باريس، ومعاركه التي افتعل بعضها، وخاضها كمحارب خبيث لا يرحم.
يسرد لنا تفاصيل تلك الحياة المجنونة كلها قبل لقائه بغالا، حيث يكتب عنواناً حاسماً لا تردد فيه ليحكي لنا سيرته معها: «غالا تكتشف كلاسيكية روحي وتلهمها».
غالا.. بداية أخرى
غالا. ولدت باسم إلينا دياكانوف، في روسيا. كانت واحدة من أكثر النساء فتنة حول السرياليين في تلك الأيام. وقد وقع معظمهم في حبها قبل زواجها من الشاعر بول إيلوار، ومع ذلك فالمعروف عنها قليل حقاً. إنها كالطيف تظهر وتختفي، تاركة فقط أثراً زائلاً يحرك مخيلتنا. لم يكتب عنها أحد أكثر من دالي. فالعديد من أعماله مهداة إليها.
«أصبحت تلميذ غالا. لقد كشفت لي مبدأ المتعة. علّمتني أيضاً معنى مبدأ الواقعية في كل شيء. علمتني كيف أرتدي ملابسي وأنزل الدرج من دون أن أسقط ستاً وثلاثين مرة، وكيف أحفظ النقود التي لدينا، وكيف أتناول الدجاج من دون أن أقذف العظام إلى أعلى، وكيف أرى أعدائي. لقد كانت ملاك توازني ونذير كلاسيكيتي. وبعيداً عن أنني أصبحت مسلوب الشخصية، تخلصت من أعراض الاستبداد العقيم المرهق».
نجحت غالا ببناء صَدَفة لدالي لحمايته، بحيث غدا يشعر نفسه: «قلعة»، واستطاع بداخله أن يتابع نحو الشيخوخة بطراوة وليونة. في اليوم الذي قرر فيه دالي رسم الساعات، رسمها ساعات رخوة.
التحوّل، الموت، البعث
نبذت السريالية منذ البداية، العقلاني والمنطقي في صالح اللاعقلاني. فقد حُثَّ الرسامون على عدم استلهام وحيهم من الواقع، بل من «نموذج داخلي صرف»، والذي كان محدداً في أولئك الرسامين الذين اكتشفوا ثانية السبب في الرسم.
في باريس قدّم دالي لباريس مشروعه السينمائي المثير: «كلب أندلسي» مع بونويل.
رغم نشاط دالي المحموم، لم يأت النجاح الذي سعى إليه بشكل يائس. كان وضعاً لا يحتمل. ومبتعداً عن أصدقائه المكتشفين حديثاً ليقضي ساعات جالساً في المقاهي أو متجولاً في البوليفرات، أحسّ مرة ثانية بمسّ الجنون. في المساء التالي: «هكذا علقت مرضي على شماعة محطة أورسي» واستقل قطاراً إلى اسبانيا.
وهناك تلاشت الحوادث الأخيرة، وحلّت محلها عجائب وغرائب الطفولة. ويُخبرنا، أن صوراً غريبة استحوذت على فكره، منبثقة بشكل ملغّز من الظلام. وكانت الفكرة الفورية رسم لوحة لإنتاج أية صورة في صفائها الشامل وبأكثر ما يمكن من الدقة. وستكون آلية كل الآلية، بدون تدخل الوعي، مطيعة فقط رغبته الأصلية، البيولوجية. كانت «اللعبة الحزينة» – التي اقترح عنوانها إيلوار – لوحة دالي السريالية حقاً. كتب في سيرة حياته: «إن هذا العمل، غير الاعتيادي والمربك إلى أقصى حد كان بمجرد سايكولوجية تعقيده بعيداً كل البعد عن «الكولاج الدادائي»، الذي هو دائماً نسق شاعري وعناصرية بيولوجية مسعورة.
كل ما يُقرأ في هذا الكتاب هو مدهش بحق ويصعب تصنيف كاتبه هل هو: مجنون، عبقري، مريض نفسي، موهوب.. أم أنه كل تلك الأشياء مع بعضها البعض شكلت ظاهرة سلفادور دالي؟! دالي يصرخ على نحو مدوٍّ: «أنا، إذاً، وأنا فقط كنت الرسام السريالي الحق، على الأقل وفقاً للتحديد الذي أعطاه زعيمها، اندريه بريتون للسريالية».
________
*السفير الثقافي