**توفيق البوركي
خاص ( ثقافات )
لا يختلف اثنان حول المكانة المميّزة التي يحتلّها الكاتب والمفكّر الاسباني خوان غُويتصولو (برشلونة 1931)، في المشهد الأدبي العالمي باعتباره من الكتّاب القلائل، الذين كرّسوا أدبهم وفكرهم للدّفاع عن القضايا الإنسانيّة والتّقريب بين الشّرق والغرب، وإقامة جسور للتّواصل تكون بمثابة كاسحة الجليد الذي جمّد العلاقات الإنسانيّة بين الشّعوب بعيدا عن العنف ولغة الحرب، التي على ما يبدو هي المهيمنة في وقتنا الحاضر.
غُويتصولو هو نموذج المثقّف العضوي، الذي اتّخذ من الكتابة وطناً له، وآمن بأُمَمِيّة لا حدود لها ضدّاً على كل النّزعات التي تدعو إلى الكراهيّة والعنف ونقاء العرق وتهميش الآخر ونبذه. فاتّخذ منفى له، هرباً من بطش الدّيكتاتوريّة الفرنكاويّة، حيّاً باريسيّاً هامشيّاً، كمُقام له حيث تختلط الأعراق وتتنوّع، ففيه العرب والكرد واليهود والأفارقة والفرنسيّون، الذين امتزج بهم وامتزجوا به، ولم يعد يُطيق الحياة بعيداً عن أمكنة لا “هُجنَة” فيها، فانعكس هذا الاختيار الإرادي على كتاباته التي انفتحت على ثقافات ومشارب أخرى، فالإبداع بالنسبة له لا يجب أن يتقوقع داخل ثقافة معيّنة ويبقى رهناً لقيم متحجّرة، وإلا فإنّه سيحكم على نفسه بالانحطاط والزّوال طال الزّمن أم قصر. فرهان انتشار ثقافة ما واستمراريّتها يعود بالأساس إلى مدى تقبّلها وانفتاحها على ثقافات وروافد أخرى تُغذيها وتُخصبها¹، وهذا ما حثه على البحث عن جذوره خارج الثّقافة الأوربيّة.
آمن غُويتصولو بالإنسان ومعاناته، فلم يتورع عن انتقاد سياسة أوربا عامّة وبلده خاصّة، تجاه الأوضاع المزرية التي يعيشوها المهاجرون، من تضييق وتعصّب وتهميش، يكتنفه في الغالب عنف مجتمعي تُغذّيه سياسة الحكّام باختلاف أيديولوجيّاتهم، يقول عن أوربا “الحقيّقية” أو “المثاليّة” التي يتشرف بالانتماء إليها:” هي التي تحافظ على حقوق الإنسان والمواطنة. ولعل أهم ما في الثقافة الأوروبية هو الاهتمام بالثّقافات الأخرى، إذا كانت هذه أوربا، فأنا أعتبر نفسي أوربيّاً بالكامل”، لكنه بالمقابل يرفض الانتماء لكيان تحوّل على حدّ قوله:” إلى نادي للدّول الغنيّة يحتفظ بحقّه في قبول أو رفض أعضاء جدد في هذه الحالة أنا ضد هذا النوع من أوربّا بكل مبادئها الأنانيّة، لأن الثّقافة المعاصرة لأوربّا لا يمكن أن تكون لا فرنسيّة ولا ألمانيّة ولا حتّى أوربيّة إذا لم تكن ممتزجة بالثّقافات الأخرى”².
استماتته هذه في الدّفاع عن القضايا العادلة للإنسان وإدانته للسّلوكات المنحرفة للسّياسة الأوربيّة، كانت وراء سفره، وهو في السّتينات من عمره، إلى البوسنة والهرسك، التي كانت تعيش حينئذ في أتون التّطهير العرقي الذي شنّته زبانيّة المجرم سلوبودان ميلوزفيتش على مسلمي البوسنة العُزّل، فكان قراره السّفر لمتابعة ما يجري، لأن مجرّد الكتابة من بعيد لم تعد تكفي وضميره لم يعد يتحمّل المزيد. فكان نتاج الزّيارة الأولى كتاباً وسمه بعنوان “دفتر سراييفو” ضمّنه تفاصيل أسبوع كامل قضاه في المدينة البوسنية المحاصرة، فضح فيه مُثقفّي وساسة أوربّا الذين أبدوا خنوعاً كبيراً أمام تجبُّر الآلة الحربيّة الصّربية الفتّاكة، التي لم يسلم منها بشر ولا حجر، يقول غُويتصولو في حوار مع المترجم المصري طلعت شاهين:” السّياسة الغربيّة الحاليّة تكافئ من يملك القوّة، وهو ما يدفع بأي متطرّف عنصري إلى التّفكير في أنّه إذا احتّل البلد المجاور له، لن يجد الرّد المناسب، لذلك قلت أيضاً أنه لا بدّ من دفن ميثاق الأمم المتّحدة ووثيقة حقوق الإنسان في مدافن سراييفو، لأن هذا هو الواقع، فالغرب يمارس سياسة الكلام الذي لا يُقابله فعل واقعيّ بل أوربّا تمارس النّفاق بوضوح وبدون خجل”³.
بقيت سراييفو ساكنة في وجدان خوان الأديب، الذي لم يتخلص من هول ما رأى خلال مُقامه بها، خصوصاً وأنّه حسّاس جداً تجاه الحرب، كما سنأتي على ذلك، فقرّر استرجاع الأحداث روائيّاً، فكتب رواية “حصار الحصارات” سنة 1995، أي بعد عامين على صدور “دفتر سرايّيفو”، كردّ فعل قويّ على همجيّة ما تعرّض له البوسنيّون في مجزرة سربرنيتشا من جهة، ثم كانتقاد لاذع للتّآمر الدّولي بقيادة الأمم المتّحدة، التي لم تحرّك ساكناً حيّال الأوضاع المزريّة التي عرفتها المنطقة آنذاك، بحيث ساوت بين الجلاّد والضّحية واعتبرت ما حدث حرباً متوازنة لا وجود لظالم فيها أو مظلوم⁴. الأمر الذي أثّر في نفسية غُويتصولو، الذي عمل مراسلاً حربيّاً لحساب جريدة الباييس الاسبانية، وشهد على حجم الدّمار الذي طال المدينة وتراثها التّاريخي والفكري، الذي شكّل مثالا على التّعايش بين الأعراق داخل البلد، وكان عائقاً أمامه في الاستمرار في عمله خلال الزّيارة الثاّنية للبوسنة، بحيث لم يتمكّن من الوصول إلى المناطق الملتهبة التي يتواجد فيها المسلمون، بسبب شدّة القصف وتواجد القنّاصة الذين احتلوا كل البنايات على امتداد الشارع الرئيسي بالمدينة، الذي أصبح يعرف بشارع القنّاصة.
لجأ خوان غُويتصولو، لسدّ هذه الثّغرة، إلى سُرود امتزج فيها الواقع بالخيال، وانتفت فيها الحدود وانصهرت فيها الأمكنة، وتشابكت الشّخصيات، وتعدّد الرواة بحيث لا نستطيع التّمييز بين الكاتب وبطل الرّواية والقارئ، فنجد أنفسنا محاصرين من كل الجوانب، تقودنا فصول الكتاب داخل متاهة متشعبّة، ما إن نظنّ أنفسنا قد نجونا حتى نسقط مجدّداً، وكان هذا مقصوداً من الكاتب، الذي قال في حوار صحفي سابق: “نفس الحصار الذي رأيته هناك طبّقته على القارئ”⁵. أي أنه أوقع قارئه المفترض في “فخ عنكبوت نصّي بالغ الدّقة” كما جاء على لسان أحد الشّخصيات في رواية حصار الحصارات⁶.
الرواية أيضا هي إدانة من الكاتب، الذي اتّخذ من سراييفو خلفيّة لمُجمل فصول روايته، للاستبداد بشتّى تمظهراته، إدانة لمن ينادون بالوحدة العرقيّة ونفي الآخر، في إشارة واضحة لليمين الأوربي، الذي ارتفعت أسهمه في بورصة السّياسة الأوربيّة في الآونة الأخيرة، والذي يُكنّ عداء صريحاً للمهاجرين الذين يعتز غُويتصولو بالانتماء إليهم والدّفاع المستميت عن قضاياهم وخير دليل، كما أسلفنا، هو اختياره الإقامة في “حي سانتيي” أحد الأحياء الفرنسيّة الأكثر شعبيّة والتي يشكّل المهاجرون أغلب قاطنيه، وأيضاً اقتناؤه لمنزل قريب من ساحة “جامع الفنا” بمدينة مرّاكش المغربيّة، معقل الحكّائين، حيث تختلط الأجناس من كل بقاع العالم، وأيضا فيها استحضار لما عاشه غُويتصولو نفسه على يد الفاشيّة الفرنكاويّة، خلال الحرب الأهليّة الاسبانيّة في ثلاثينات القرن الماضي، ولعل أبرز دليل يحيل على هذه المعاناة هو توظيفه لصورة والدته التي اغتالتها زبانيّة فرانكو في غارة على أحد الأحياء السّكنية في مدينة برشلونة، وهي في الروايّة تتقمّص دور سيّدة بوسنية تحتضن حقيبة صغيرة من قماش مشمّع، تبحث عن ملاذ آمن بعيدا عن أعين القنّاصة المتعطّشة للدّماء ، يقول على لسان بطل روايته: “أي كنز كانت تحتضنه في حقيبتها بحبّ؟هل حطب أم طعام أم هدايا لأطفالها الأربعة؟(…) هناك رقم لا يكف عن التحليق في ذاكرته مثل ندفة ثلج بليدة عطوب. أربعة، هل كتب أربعة؟ فأي رباط مكتوم سرى بينه وبين ذلك الطّيف اليتيم في الدّمار الشتوي؟”⁷. هذا الرّقم الذي احتلّ ذاكرة الرّاوي، يحيل إلى خوان وأشقائه الثّلاثة: مارتا وخوصي أغوستين ولويس، والأخيرين كاتبين معروفين في اسبانيا. وكان أن علق هذا الحدث المأساوي في ذاكرة الصّبي خوان وظلّ معه وهو العجوز الثّمانيني لا يفارق مخيلته، كنوع من تأنيب الضمير لأنه لم يجنب أمه الخطر ويمنعها من الخروج إلى حتفها.
أخيرا، يمكن القول أن القراءة لغُويتصولو ليست بالمهمّة السّهلة، بل على العكس من ذلك، فهي تتطلّب جهداً ذهنياً كبيراً، لفكّ شفراتها والدخول إلى عوالمها الغامضة، الشيء الذي جعل أغلب نقاد الأدب يبتعدون عن التّعاطي مع أعماله الفكريّة والأدبيّة التي عرفت نقلة كبرى منذ صدور عمله الرّوائي “بطاقة هويّة” سنة 1961، الذي قطع به مع مرحلة “النّهايات السّعيدة”، والانتقال نحو مرحلة أكثر نضجاً وأكثر امتلاءً، كما قال عنه خورخي سمبرون: “فبعد سنوات من الصّمت غير المعتاد لدى كاتب بمثل هذه الموهبة، ومثل هذا الافتقار الظّاهري للمشكلات، ينشر خوان غُويتصولو “بطاقة هويّة”، الذي يؤشّر على قطع وبداية تحّول. وعلى صعد عدّة. فأوّلاً، ترى إلى هويّة الراوي-هذه “الأنا” التي كانت حتى الآن شفّافة، مبعثرة، معارة للشّخصيات الأكثر تنوعاً، والأكثر موقوتيّة، نقول ننظر إليها وهي تترّكز، تزداد سمكاً، وتصبح أكثر عتمة، بل وحتّى موضوع بحث. واللّغة نفسها، المادّة، فعل الكتابة نفسه، هذا كله صار تحت طائلة التّساؤل بجذرية ⁸.
____________________
هوامش:
-¹غويتسولو كاتب يصغي لقضايا العصر(مقالة)، ابراهيم الخطيب، نشر بجريدة الأخبار المغربية. عدد 626، الخميس 27 نونبر 2014.
-²دفتر سراييفو ، خوان غويتسولو، ترجمة وتقديم طلعت شاهين، نشر الفنك 1994، الدار البيضاء، المغرب. ص 11.
-³ نفس المصدر، ص 16.
– ⁴خوان غويتيسولو المراكشي الاسباني : عملي يكمل اسبانياً ما كتبه ادوار سعيد بالاستشراق(حوار)، محمد عبيدو، الحوار المتمدن-العدد: 3071 – 2010 / 7 / 22
-⁵ نفس المصدر
-⁶حصار الحصارات، خوان غويتسولو، ترجمة ابراهيم الخطيب، دار توبقال للنشر 2001. المغرب، ص 112
-⁷نفس المصدر، ص 12
-⁸على وثيرة النوارس: منتخبات سردية، خوان غويتسولو، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر سنة 1990. المغرب، ص 11.