وولت ويتمان..أعظم شعراء أمريكا




*وفيق صفوت مختار



كما يُعد مارك توين(1835ـ 1910م) رائداً للرواية الأمريكية،ويوجين أونيل(1888ـ 1953م) رائداً للمسرح الأمريكي،فإنَّ وولت ويتمان يُعتبر رائداً للشعر الأمريكي، وعلامة مضيئة في تاريخ الأدب الأمريكي عبر كل العصور.
لم يكن ويتمان مُجرَّد شاعر أو أديب بل كان أيضاً كما وصفه أبناء جيله رسولاً للديمقراطية، ونصيراً للبسطاء في كل مكان وزمان. اعتبر علماء النفس «أشعاره» دراسة خصبة لمكوِّنات النفس البشرية، واعتبره النُقَّاد فيلسوفاً، إذ كان يملك النظرة الشاملة المتكاملة إلى الكون والأحياء، وهي النظرة التي احتوت الإنسان والمجتمع والعلاقة بينهما.وقد تمكَّن من تحطيم القوالب الأوروبية التي كان يصّب فيها الشعر الأمريكي عنوة، ممَّا جعله مُجرَّد تقليد باهت يخلو تماماً من عناصر الأصالة التي تنبع من تربة الوطن نفسه.
ولد وولت ويتمان Walt Whitman في 31 مايو 1819م في ضاحية صغيرة من ضواحي «لونج أيلاند» في «نيويورك»، من أبوين ينتميان إلى أصول إنجليزية وهولندية، وهو النجل الثاني لأسرة تكوَّنت من تسعة أطفال. والده «والتر ويتمان»كان يعمل في أعمال البناء، وأمّه امرأة ورعة لا تتوقف عن الدعاء والصلاة.لم يتسن لـ «ويتمان» الحصول على أكثر من تعليم ابتدائي بسيط.ومنذ سن الثانية عشرة انقطع عن الدراسة ليبدأ العمل في مهنٍ متنوعةٍ.وفي عام (1836م)، أصبح مُعلِّماً في إحدى المدارس الريفية، وخلال هذه الفترة بدأ ينشر قصائده الأولى. ومع حلول عام (1838م) انصرف ويتمان عن مهنة التعليم إلى مهنة الصحافة.
وفي عام (1846م) أصبح رئيساً لتحرير مجلة «بروكلين إيجل» الناطقة بلسان الحزب الديمقراطي، والتي هاجم فيها كل أنواع التعصُّب والفاشية والديكتاتورية، وقد جُمعت كتاباته في هذه المجلة في مجلدين بعنوان: «تجميع القوي» عام (1920م). وقد انتقل ويتمان في عام (1848م)، إلى مدينة «نيوأورليانز» للعمل كرئيس تحرير في صحيفة حديثة التأسيس تُدعى «كريسنت»، فتناولت مقالاته شؤون الطبقات الدنيا، ممَّا أثار حفيظة مالك الصحيفة الذي قرَّر طرده بعد ثلاثة أشهر من العمل بها.
وعندما نشبت الحرب الأهلية الأمريكية في عام (1860م) تطوَّع «ويتمان» لمساعدة الجرحى في المستشفيات. غير أنَّه عاد إلى بلدته بعد أربعة أعوام قضاها في جبهات القتال.وقد بدأت حياته تشهد بعض الاستقرار عام (1865م) إثر حصوله على وظيفة حكوميةٍ في وزارة الداخلية في واشنطن. وفي أوائل عام (1873م) ذهب ويتمان إلى ولاية «نيوجرسي» ليعول أَّمَّه المريضة، والتي توفيت بعد ثلاثة أيام من وصوله. وفي العام نفسه أُصيب بشللٍ نصفي نتيجة جلطة دماغية، أثَّرت على كتاباته وغيَّرت من فكره إلى حدٍّ ما، فتبدّلت فلسفته التي كانت تعتبر الكون مادة واحدة، لكي تصبح مثالية روحانية يغلب عليها التصوُّف،كما تغيَّرت آراؤه السياسية من الفردية إلى القومية.
وبدأ يُتابع الطبعات الجديدة من ديوانه «أوراق العشب»، وهي الطبعات التي احتوت على قصائد جديدة، مثل: «غصون نوفمبر 1888م»، «وداعاً يا خيالي1891م».
وفي (26 من شهر مارس1892م) توفي ويتمان في مدينة «كامدن» بولاية «نيوجرسي» حيث دُفن، عن عُمْر يُناهز «72 عاماً» تاركاً ثروة شعرية ما زالت قيمتها تزداد مع مرور الأيام.
بدأ ويتمان حياته العملية بقراءات ذاتية شرهة، وتعلُّم فردي إلى حدٍّ كبير، هذا الاطلاع المستمر منحه خلفية ثقافية عريضة، بدأ بقراءة الإنجيل، و«وليم شكسبير» (1564ـ 1616م)، والروائي فرانسيس سكوت فيتزجيرالد» (1896ـ1940م)، والشاعر الإغريقي «هوميروس»(عاش نحو القرن الثامن قبل الميلاد)، كذلك قرأ مُجمل أعمال الشاعر الإيطالي دانتي أليجييري (1265ـ 1321م) .
وقد أجمع الكثير من النُقَّاد على أنَّ المرحلة ما بين (1850م و1855م) هي الأهم في حياة ويتمان فكرياً وروحياً، وإن بدت الأكثر فشلاً مهنياً، إذ إنَّه في هذه المرحلة كان غزير الإنتاج الشعري، إضافة إلى أنَّه بدأ بكتابة قصائد مختلفة في أسلوبها وجوهرها وتطلُّعاتها عمَّا سبقها من قصائده الركيكة. تجمَّعت لدىّ «ويتمان» في هذه الفترة من الكتابات ما تراوح بين الشعر والنثر، فألَّف منها في عام 1855م مجموعة شعرية أسماها «أوراق العشب» Leaves of Grass، حيث تمكَّن من العثور على مطبعة صغيرة في «بروكلين»، وافق صاحبها على طباعة هذه المجموعة له، بحيث كانت تضم (12) قصيدة جاءت في (95) صفحة.
مقطع قصير يليه مقطع طويل) في الشعر الإنجليزي التقليدي،إذ تقترب قصائده في مجموعة «أوراق العشب» إلى إيقاع الأناجيل، وليس التفعيلة البريطانية ذات المقطعين،فهو قد ابتعد جذرياً عن الوزن والشكل الشعريين المعهودين إلى حدٍّ أنَّها أطلقت شرارة جدل نقدي حول ما إذا كانت هذه القصائد شعراً أم لا ؟!
مع ظهور الإصدار الخامس من مجموعته الشعرية «أوراق العشب» بدأت شهرة ويتمان في الذيوع والانتشار ليس في كل أرجاء القارة الأمريكية بل عبر البحار أيضاً.وقد واصل ويتمان العمل على تلك المجموعة وتطويرها مضيفاً إليها الجديد من القصائد ومُنقِّحاً القديم منها، لتتوالى طبعاتها على مدى سبعة وثلاثين عاماً في تسعة إصدارات مختلفة، آخرها كان في عام 1892م،ولتتجاوز صفحاتها الأربعمائة صفحة.
هذا، ويقول الأديب والفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون (1803ـ 1882م)،عن ديوان «أوراق العشب»: إنَّه أروع ما أنتجته أمريكا في فطنته وحكمته»،ويصفه الناقد الإنجليزي المعاصر آلان بولد، قائلاً: إنَّ ما كتبه ويتمان في هذا الديوان يُعد غزيراً بما فيه الكفاية لكي يبحث من خلاله أي قارئ عمَّا تُجسِّده روحه ونفسه.
وعن وقائع الحرب الأهلية،وتطوعه للعمل في خدمة الجنود في مستشفيات الجيش،كتب مؤلَّفه «مذكرات الحرب» الذي صدر في عام (1875م)،كما أصدر ديوانه «قرع الطبل» Drum Taps عام (1865م)، فهذه التجربة الفريدة كان لها الأثر الأكبر في قصائد هذا الديوان إذ منحتها مزيداً من القوة والزخم. وشجع سرعة نفاد الطبعة الأولى من الديوان «ويتمان» على إعادة إصداره في العام التالي ، مضيفاً إليه ملحقاً يضم مزيداً من القصائد،تضمَّنت قصيدتيه: «أزهار البنفسج على عتبة الازدهار»، و«أيها القائد.. ياقائدي»، في رثاء الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية» أبراهام لنكولن» (1809ـ 1865م)، اللتين يعتبرهما عدد من النُقَّاد من أبرز المراثي في اللغة الإنجليزية. ثم كتب في عام (1871م) دراسته التحليلية «آفاق الديمقراطية» Democratic Vistas، تلاه بكتاب «الطريق إلى الهند»، إلى جانب سيرته الذاتية التي نقلها في كتاب «نماذج من أيامي».
كان شعره غزيراً بالحُبِّ الذي يُريد أن ينثره لكل البشر، ولذلك وصفوه بأنَّه: «أعظم شعراء أمريكا»، حيث كان له تأثيره العميق في الآخرين، وامتد هذا الأثر والتأثير إلى خارج حدود الولايات المتحدة.
وقد اعتبر البعض أنَّ الشعر الحرّ ظهر على يدِّ ويتمان من خلال ديوانه «أوراق العشب» فيُشير الشاعر اللبناني يوسف الخال (1916ـ 1957م) إلى أنَّه بفضل شعر ويتمان انطلقت حركة الشعر الحرّ التي دعت إلى التخلُّص من الأوزان المألوفة، واعتماد نغم خاصّ بالشاعر يمنحه قدراً كبيراً من حرية التعبير عن تجربته الشعرية.
اعتُبر شعر ويتمان شاذاً عن أسلوب عصره من مفاهيم عامَّة تتعلَّق بآداب السلوك والحسّ الجمالي السليم، إضافة إلى عفوية أسلوبه المتمثِّل بالبُعد عن «النموذج الفيكتوري» المتسم بالتكلُّف والفخامة والزخرفة،كل ذلك جعله عُرضة لقدح نُقَّاد عصره وشعراء صالوناته،كما أنَّ انحدار ويتمان من الطبقة العاملة وليس من النخبة المثقفة جعل النُقَّاد ينظرون إليه على أنَّه دخيل على الأدب، وكأن الأدب حكراً على فئة أو جماعةٍ بعينها!! فقد قلّل الشاعر «ت.س.إليوت» (1888ـ 1965م) من شأن ويتمان وإنجازاته الشعرية، الأمر الذي دفع بعضاً من النُقَّاد الأمريكيين إلى الهجوم عليه.كما أنَّ الروائي الإنجليزي «ديفيد هربرت لورانس» (1885ـ 1930م) صاحب الأدب «المكشوف»، انتقد شعر»ويتمان» ووصفه بأنَّه بعيد عن الإثارة، ورُغم ذلك لم يبخل على «ويتمان» بأن يجعله الشاعر الذي يستطيع أن يُغيِّر الدّم في عروق الإنسان،وإنَّه أعظم شعراء الحداثة في أمريكا،كما وصفه بأنَّه: ليس أرستقراطي المنشأ بل أرستقراطي الروح، وإنَّ الأمريكيين لا يستحقونه.
عاش حياة الشاعر الحُرّ الطليق من قيود الدنيا، فهو لا يعبأ من شؤونها بما يعبأ بها غيره، وهو لا يخضع ذاته لقيود الحياة وإملاءاتها. إنَّ ويتمان إذ أحبّ نفسه إنَّما أحبَّها لأنَّه أحبّ الحياة، والحياة التي أحبَّها لم تكن الحياة المرهفة الناعمة التي يُدميها لمس الحرير، لكنها الحياة الخشنة المُجاهدة العاملة، التي تسيل بالعرق.
______
*مجلة دبي الثقافية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *