لا تخافوا من الحب

*يوسف ضمرة

 

لكثرة ما سمعت عن ستالين في بداياتي الثقافية، وما قرأت بعضه بعد ذلك، استغربت كيف أن ستالين لم يحزّ رقبة جنكيز آيتماتوف، أو لم يقيده بالسلاسل ويلقي به في مجاهل سيبيريا، بسبب روايته الرائعة «جميلة». فقد شاعت عن ستالين دعابة ديوان شعر الغزل الذي نشره شاعر روسي، حيث قال له ستالين: كان يمكنك طباعة نسختين فقط، واحدة لك والثانية لحبيبتك.

«جميلة» امرأة شابة ذهب زوجها إلى الجبهة جنديا مقاتلا في سبيل الوطن والدفاع عنه، لكن «جميلة» تعشق شابا في موسم الحصاد ويهربان معا.

كيف يسمح ستالين بنشر رواية تخون فيها زوجة الجندي زوجها المقاتل المخلص والمنتمي للوطن؟ وإذا لم يكن ستالين فكيف يسمح غيره بذلك في بلد صنّف شموليا وقمعيا وقابعا خلف سور حديدي، لئلا يتصل مع العالم الخارجي؟

«جميلة» مثال لأدب إنساني رفيع ذي قيمة إنسانية عالية، ويتعين سمو هذه القيمة تحديدا لأن الوقائع حدثت أثناء الحرب، حيث يمكن لأحد ما أن يتبجح قائلا إن هذا أمر مشين، أو في أحسن الأحوال أمر ثانوي وغير ذي قيمة، فلا يعقل أن تموت الملايين على جبهات القتال وفي المدن، وتأتي امرأة شابة لتفكر في الحب من جهة، ثم تتطرف وتخون زوجها المحارب من جهة ثانية، ثم تهرب من البلدة كلها من جهة ثالثة.

يبدو الأمر في ظاهره خروجا عن السياق الموضوعي، وتنكرا لفكرة الوطن والدفاع عنه والانتماء إليه، لكنه في جوهره يبدو لي قمة في السمو الإنساني ونقاء المشاعر التي لا يصح لأحد أو واقعة أو أي شيء أن يلوي عنقها، وسواء كان الوقت سلما أم حربا، فإن الحب يظل شأنا إنسانيا قائما وواقعا ولا فكاك منه، إنه مكوّن رئيس من مكونات الإنسان والإنسانية كلها، بصرف النظر عن الظروف الموضوعية الطارئة كالحرب، فالحب هو الأساس والحروب استثناء، ولا يصح أن يتغلب الاستثنائي والطارئ على الأساسي والجوهري والرئيس.

أسوق هذا المثال للتطرق إلى ما يسمى «الربيع العربي»، وما صاحبه ويصاحبه من قتل وتدمير وتخريب وتقليص للمساحة الإنسانية في البشر، فقد بدا للكثير من الكتاب والشعراء والأدباء أن قصائد الحب وقصصه وحكاياته ربما تسيء إلى الدم العربي المسفوك يوميا. وهذا رأي يتجاهل تراتبية القيم الإنسانية، وينسى أن الحب هو أسمى قيمة بالنسبة للإنسان، فالشعوب تستطيع ممارسة الحرب والقتل والتدمير بسهولة وفي أي وقت، لكنها لا تستطيع القيام بالبناء في أي وقت، ومن دون حب، وربما يقول بعضهم إن هذا هو الحب المطلق، فأقول نعم، والحب بين الرجل والمرأة هو تجسيد لهذا الحب الإنساني المطلق، وعلى الشعراء والكتاب ألا يشعروا بالحرج أو الخوف ـ أثناء المآسي الكبرى ـ من كتابة قصائد الحب وقصص الحب وحكايات الحب، بل يمكن القول بشجاعة إن الكتابة في الحب وعن الحب في زمن الحرب، تشكل رادعا قويا لوحشية الإنسان التي قد تفلت من عقالها، وتشكل نداء قويا يذكّر الإنسان بإنسانيته، ما يخفف من اندفاعه في حقول الشر والقتل والموت.

لا تخافوا أيها الشعراء والكتاب.. لا تشعروا بالخجل.. واكتبوا لنا أجمل قصص الحب وأرق قصائده، في زمن اندلاع البغضاء وتعميم نتائجها.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *