شعراء ولكن


* خليل قنديل

يظل الشعر سيد الكتابة وخامتها المضمرة بثقل الرؤيا والحساسية الجارحة للمشهد الإنساني، ويظل الشعر هو ما أطلقه جدنا الكهفي الأول حين ارتجفت نياط قلبه للمشهد الأرضي حوله، واضطر أن يخرج وقتها عن اللغة السائدة في المغائر والكهوف، والغابات ليطلق ما يُشبه الأغنية المرتعشة وهي محملة باهتزازه الروحي المباغت.

ولهذا تظل سلالة الشعراء عبر التاريخ الإنساني تعاني ارتباكاً كوكبياً يصعب أن تجده إلا عند الشعراء المتصلين بهذه السلالة تحديداً.
ولا أبالغ إن قلت إنه من الممكن إن كنت تمتلك حساسية عالية في فكرة التلامس، فإنك حين تصافح الشاعر الحقيقي فأنت تشعر بأنك تقبض على يد أُمية مرتجفة ومعرقة توصل لجسدك تياراً مثقلاً بارتباكات لا تخلو من الغموض، ارتباكات كأنها تطلق ما يُشبه الاستغاثة.
نعم يد الشاعر مُربكة، وأنا حين التقيت الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، لأول مرة، وصافحته، أحسست بلدغة يد الشاعر تكهربني بذاك الارتباك الكوني، وقد تكرر الحادث مع شعراء عرب كثر في غير عاصمة عربية وفي غير مهرجان أو مناسبة ثقافية.
وتكاد تكون يد الشاعر المرتجفة بأثقالها الكوكبية هي علامة مميزة على فرز الشاعر الحقيقي من الشاعر المزوّر، فأنت حين تصافح الشاعر المزور تشعر بأنك تقبض على يد بلاستيكية باردة، لا بل يد دودية لدنة لا توقظ عندك أي شعور.
إنها إذن يد الشاعر الكاذب الذي تحول إلى ظاهرة مكثفة في حضورها الطاغي في أيامنا هذه، وإذا أردت أن تتيقن من ذلك فما عليك سوى أن تصبر قليلاً كي تستمع لهرطقاته الشعرية لتكتشف بعد ذلك أنك تجالس أحد سدنة الاحتيالات اللغوية.
فالشاعر المزور حينما يود أن يكتب قصيدته فإنه يحاول أن يذهب إلى حالة التعقيد اللغوي، وهو يختار الكلمات الصعبة والوعرة، وهو يجيد فكرة التقافز والنطنطة بين الكلمات والجمل التي يعتقد أنها شعرية.
والشاعر المزور حين تراقب مسلكه الحياتي تكتشف البون الشاسع بين كل ما يحبر من شعر وقصيد وبين حياته التي لا تختلف عن حياة أي واحد أُمّيّ أو متخلف.
ففي منطقته الشعرية تراه لا يترك مجلة أو منبراً أدبياً يعتب عليه، وأينما ذهبت في مواقع الإنترنت تجده يطل برأسه.
والشاعر المزور لا يترك مناسبة ثقافية محلية كانت أو عربية تهرب منه، فهو يسعى إلى توطيد علاقته مع أي زائر لبلده، كي يُغدق عليه بالدعوات والولائم كي يتم استثمار هذه الدعوة بدعوة من الضيف لمهرجان أو لأي مناسبة ثقافية تقام في بلد الضيف الفريسة.
والشاعر المزوّر قد تراه يقفز على كل هذا ويقوم بشراء تذكرة طائرة على حسابه الخاص كي يشارك في أي فعالية ثقافية عربية أو حتى عالمية، مراهناً على أنه بمهاراته الخاصة سيفرض نفسه على تلك الفعاليات.
الشعراء المزورون هم شعراء ولكن..
_________
(الإمارات اليوم)

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *