*محمد بنيس
لم أتعجّل في زيارة الصين، رغم أني كنت منذ شبابي الأول متعلقاً بها. قراءاتي عنها جاءت من أمكنة مختلفة ومتقاطعة. لعل أبرزها هو الثورة الصينية، مع ماوتسي تونغ، برمز «الكتاب الأحمر»، إذ سمعت بها أول مرة سنة 1970، أي بعد سنة من نهايتها. وازداد شغفي لاحقاً بالصين وثقافتها وفنونها. قراءاتي حول الصين دائمة، ومعرفتي بها اتسعت مع ما مرت به من تحولات على امتداد العشرين سنة الأخيرة. وها هي الفرصة حانت بعد أن تسلمت دعوة للمشاركة في أمسيات الشعر العالمي في هونغ كونغ وغْوانَغْ جُو، المنعقدين بين 26 نوفمبر و3 ديسمبر 2015.
1
في مطار الدار البيضاء تذكرت الرحالة المغربي ابن بطوطة. كنت تذكرته سابقاً عندما توجهت سنة 1990 إلى عمّان، لحضور مهرجان التضامن مع الذكرى الثالثة للانتفاضة. وبانتظار ركوب الطائرة، في 23 نوفمبر من السنة الماضية 2015، حضرت أمامي صورته. لازم كل واحد منا سواه في المطار وأثناء الرحلة. تخيلته، في البدء، يحمل حقيبة صغيرة وخفيفة، في انتظار انطلاق القافلة من طنجة إلى الجزيرة العربية. كان يقصد الحج، على عادة المسلمين، الذين توفرت لهم إمكانية السفر. ومن الجزيرة العربية استأنف الرحلة التي طالت مدتها حتى بلغ الصين. سافر من طنجة يوم 14 يونيو 1325 وعاد إلى فاس في نوفمبر 1349.
تعجبت من مسار رحلة ابن بطوطة. فهو كان يطلب الحج، لكن لقاءه في الإسكندرية في أبريل 1326 ببرهان الدين الأعرج هو الذي شجّعه على السياحة في الأرض. رحلة سياحية، خالية من أي هدف غير التعرف على البلاد وأهلها. كان ابن بطوطة متحرراً من الغاية النفعية مثل الدعوة، لأن الإسلام كان انتشر في آسيا قبل قرون، ولم تكن لديه دوافع سياسية أو تجارية أو عسكرية، مثلما كانت للأوروبيين.
2
صورة ابن بطوطة استدعت صوراً تنامت عبر المسافة الطويلة للسفر. استغرقت الرحلة مدة ست عشرة ساعة. فارقني الملل، لأن الصحبة كانت تنتقل من ابن بطوطة إلى المجلد التاوي «هوينان زي». موسوعة شاملة، مكونة من واحد وعشرين فصلاً، صدرت ضمن مكتبة لابلياد، عن منشورات غاليمار الباريسية. كنت واضحاً مع نفسي. أنا لست ابن بطوطة، وتوجه الرحلة متباينٌ بيننا. سأتوجه مباشرة إلى الصين بدعوة صينية للمشاركة في مهرجان شعري يجمع شعراء من الشرق والغرب. علاوة على أن لي رغبة في التعرف المحسوس على الثقافة الصينية.
رحلة تتخلص من الحنين إلى زمن ابن بطوطة وإلى زمن الثورة الثقافية. المهرجان الذي أقصده يقام في هونغ كونغ. إنها منطقة إدارية ذات طابع تجاري وسياحي، تخضع لسيادة جمهورية الصين الشعبية، لكنها تتمتع باستقلال ذاتي. إلى هناك أتوجه، لأن المهرجان فيها يبدأ، ومنها إلى غْوانغْ جُو. قرأت وأعدت، عبر الرحلة، مقاطع من «هوينان زي» لفلاسفة تاويّين قدماء، عاشوا في القرن الثاني قبل الميلاد. ميزة هذا الكتاب أنه «يتألف من خطين موجّهين، الأول يتناول التعريف بالتاوْ وفضائله من جهة، وبالحياة البشرية من جهة ثانية، والثاني ينصب على التقسيم الثلاثي للكون: السماء والأرض والإنسان». العنصر الأساس هو التاو. وهو يدلُّ على الواقع السري، الخفيّ، الذي يصعب تحديد معناه. أقصد الواقع الذي هو منبعُ وحجّة كل ما هو موجود، دون أن يكون مع ذلك سبب الوجود أو الخالق على نحو مباشر. فالمعروف عن الصينيين أنهم اعتنوْا، منذ عهد قديم، بالتجاوبات بين الظواهر الإنسانية والأرضية والسماوية. وهي تتم بواسطة رجْع الصدَى الأفقي بين هذه الكائنات، ثم رجْع الصدَى العمودي بين كائنات كل ظاهرة على حدة من الظواهر الثلاث. و»الإنسان الحقيقي» هو وحده الذي له علاقة رجع الصدى الخلاق والمحوّل مع الكوْن بكامله.
أنا الآن مستريح في مقعدي بالطائرة. أكاد أنسى العالم الذي انطلقت منه. شيئاً فشيئاً أحس بالقرب المتزايد من هونغ كونغ ومن غْوانغْ جُو، الواقعة داخل الصين. سأسافر إليها عبر القطار، صحبة شعراء آخرين، بعد اختتام مهرجان هونغ كونغ. في منتصف النهار أقلعت الطائرة من مطار محمد الخامس، وفي الفجر من اليوم التالي، 24 نوفمبر، تحركت الطائرة من مطار دبي. جلال الشروق كان على مرأى من بصري يكتمل بهدوء تام. سحب متفرقة عبر مناطق من السماء تبدو حمرتها مختلطة بالرماديّ الغامق. بعد برهة أصبح الأحمر وردياً، فبُرتقالياً. سطعت أشعة الشمس في قطر شاسع. وخلال مضاعفة السطوع خُيّل لي أني أسمعُ تراتيل في معبد بودي، تصل من مكان مجهول.
3
علمتني الآداب والرسوم أن الصين قارة تكثر فيها الجبال والأنهار، إلى حد أنني صرت أنظر إلى جمال الصين من خلال جبالها وشلالاتها وأنهارها، وعبر الجبال تتوزع مئات الآلاف من القرى. بفضل المياه تنبت الأشجار والأزهار والأعشاب في كل مكان على اختلاف الأنواع. بمجرد أن حلقت الطائرة فوق الأرض الصينية خفّت مشاهد الجبال نحوي وتجمعت في حجم النافذة. وعندما أشرفتْ على الهبوط في المطار رأيت جبلين يحرسان هونغ كونغ. وفي الطريق من المطار إلى الفندق لاحظت كثافة العمارات الشاهقة بنحافتها وبعدها الأشجار. الأخضر الغامق يغمر المنطقة. والجبال البعيدة تتراءى من وراء طبقات اللون الرمادي، التي يمكن أن تميز في نهايتها بقعاً بيضاء.
أخبرتني مرافقتي ليلْيانْ، أن هونغ كونغ تتألف من ثلاث جزر، وأن ميناءها يشتهر بوصفه «ميناء العطور». وهي تقع على نهر اللآلئ، أحد الأنهار التي تخترق أراضي الصين. لك أن تحلم قليلاً بالأرخبيل. هونغ كونغ أغنى مدينة في الصين. كانت محدثتي تكلمني بإنجليزية طليقة، لأن هونغ كونغ كانت مستعمرة إنجليزية لمدة مائة وخمسين سنة (1842 1997). وأضافت ليليانْ أن أسماء الأشخاص من الجيل الجديد أصبحت أميركية.
أحسست بتعب شديد عند دخول الغرفة في الفندق. أغلقت الستارة بسرعة وانطرحت على الفراش. نمت لوقت قصير. اختلاف التوقيت نغّص علي النوم. وقضيتُ من تعبي ليلة لا سهر فيها ولا نوم. في صباح اليوم التالي نزلت لتناول الفطور، ففاجأني وجه الصديق غسان زقطان، وإلى جانبه نجوان درويش، الذي ألتقي به للمرة الثانية. وبتلقائية عجيبة حيّتني سيدة ذات سحنة آسيوية، عرفت أنها الشاعرة اليابانية يوكُو تاوَادَا، من طوكيو، يرافقها كل من جوردان سميث، الأميركي الذي يعمل أستاذاً مساعداً في كلية الآداب بجامعة جوساي بطوكيو، وتيان يواي الأستاذ الياباني المساعد بالكلية ذاتها.
حلقة صغيرة من الشعراء في صباح هونغ كونغ، ينطلق بينها الحديث. على حين غرة حضر كْريس سُونْغ زيجْيانْغ، مدير المهرجان، ومساعدته هيلين لامْ. وعلى بعد خطوات رأيت البرتغالي الصديق فيليبو بينتو دي أمَرال، وتقدم نحوي المقدوني نيكولا مادزيروف (أصل الاسم في العربية هو «المهاجر»). اتسعت الحلقة، وعلى الوجوه تبادلت الابتسامات.
4
الصين قارة. لكن طبيعتها المؤلفة من الجبال والأنهار والشلالات تعطي الأشجار والأزهار خضرة وألواناً تتوالى على مدار فصول السنة، فيما السماء والقمر يكسوان الأرض بطاقة من السكينة والضوء. هذه المظاهر الطبيعية مصدرٌ تستوحيه البودية والتاوية، وتتركز فيها عوالم الشعر الصيني، كما يتجلى في أعمال كبار الشعراء: لِي بُّو(701 762)، تُوفُو(712 770)، ولِي يُو(1125 1210).
وأنا، هنا، في هونغ كونغ على عتبة الصين. لن أخطئ في تقدير حجم أرض الصين ولا في ثقافتها وفنونها، أو في عراقتها وخصيصتها الميتافيزيقية، الغريبة عن العالمين العربي والغربي. في أول حديث لي مع كْريس سُونْغ زيجْيانْغ، أخبرته برغبتي في زيارة متحف للخط ومعابد بودية وتاوية. من هناك سأشرع في اللقاء مع الصين، لا في الأسواق التجارية التي تعج بها المدينة. وافقني على وضع برنامج للزيارات، ووعد بمساعدتي.
كنا في يوم 25 نوفمبر. افتتاح المهرجان سيتم في الساعة الرابعة مساء بمقر بنك هونغ كونغ القديم. إلى هناك توجهنا في حافلة. مبنى قديم. وابتداءً من المدخل أنبأتني عيني بأن مقر البنك تحول إلى ناد يحتفل بأعمال فنية، أغلبها لوحات زيتية ومائية وصور فوتوغرافية. فوق مشجب، إطار خشبي أحمر مستطيل يجمع صوراً نصفية، في حجم بطاقات بريدية، لماركس، إنجلز، لينين، ستالين، ماوتسي تونغ، شوان لاي. أعلى الإطار علقت خوذة عسكرية مثقوبة وقبعتان. وهي جميعها قديمة تعود إلى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. في وسط باحة النادي صحن كبير من الخزف، عليه رسوم التنّين باللون الصيني الأزرق، وفوق الصحن مجسّدات من الفخار لأطراف نسائية. وكلما صعدنا الدرج شاهدنا لوحات زيتية، تعكس التيارات الغربية التي اخترقت الحياة الفنية الصينية في العصر الحديث. وما أثار انتباهي أكثر هو صورة الزعيم صن يات صن (1866 1925) «أبو الصين الحديثة» أو «أبو الأمة». صوره المتكررة تعبير عن الوفاء لهذا القائد الذي كان أنهى حكم عائلة تشيينغ سنة 1911، وأعلن عن قيام أول جمهورية صينية عام 1913. واكتشفت لاحقاً متحفاً خاصاً به في المدينة.
قدم الشاعر بييْ ضَاوْ كلمة افتتاح المهرجان بالصينية (ترجمت على الفور إلى الإنجليزية)، رحب فيها بالمشاركين من جهات مختلفة من العالم، وأعطى فكرة عن برنامج المهرجان، الذي ينقسم إلى جلسات حوار بين الشعراء في موضوع «الشعر والصراعات»، ثم أمسيات شعرية. كلمة مختصرة، دعا فيها إلى تفاعل بين الشعراء والصحافيين، الذي حضروا بكثافة. سمح الحوار مع الصحافيين بحديث مباشر بينهم وبين الشعراء، تخللته لحظات من العفوية والتجاوب. وبذلك تعرفنا، نحن أنفسنا، على المشاركين من القارات الأربع (باستثناء أميركا الجنوبية). وفي المساء نزلنا إلى قاعة المطعم. في ركن منه معرض، محفوظ في علبة زجاجية، لتماثيل خزفية، صغيرة وملونة، لماوتسي تونغ ونماذج تمثيلية للفئات التي كانت إلى جانبه في الثورة، من قادة سياسيين، مثل شوان لايْ، وعمال وفلاحين وطلبة وحرس أحمر. مشهد جمع عشرات القطع التي تعرض مركّبة في مجموعة فنية متكاملة. في هذه التركيبة من التماثيل تشعر بالمكانة التي لا يزال ماوتسي تونغ يحظى بها. تعيد النظر إلى العمل الفني، الذي تتحول دلالته اليوم عمّا كانت له من غاية دعوية في زمنه.
5
في أول جلسات الندوة، بجامعة تشونغ تشي، كان الجو متوتراً. جلسة منظمة لمناقشة الشعر والصراعات في الشرق الأوسط. كان من المقرر أن يشارك غسان زقطان ونجوان درويش وأنا، من العالم العربي، ثم أغي ميشول وبيتر كول، من إسرائيل، وغليب شولبياكوف من روسيا. لا أحد منا يمثل مؤسسة أو طرفاً رسمياً، لأننا شعراء، ولنا آراؤنا ومواقفنا الشخصية. ما سبّب التوتر هو غياب كل من غسان زقطان ونجوان درويش عن الندوة. وبادر الشاعران الإسرائيليان إلى انتقاد هذا الغياب. وجدت نفسي في موقف صعب، لأن حضور الندوة جزء من برنامج المهرجان الذي التزمنا به، وهو لا يجبرنا على التنازل عن أي موقف، ثم لأن الرد على انتقادات الإسرائيليين للفلسطينيين يتطلب رؤية متبصرة، بعيدة عن أي انفعال. لم أتغافل عن أننا نتكلم أمام الإعلام وفي حضور شعراء من جهات متعددة من العالم.
كلمتي ركزت على أن الشعر لا يغير العالم لكنه يبني ثقافة وأخلاقيات الحوار. وخلال النقاش بيّنت أن للفلسطينيين حق التغيب لأننا لا بد أن نتفهمهم ونتفهم عذابات شعبهم. وانتهى سوء التفاهم في المساء ذاته عندما شارك غسان ونجوان في الأمسية الشعرية إلى جانبي، وفي اليوم التالي شاركا في الندوة. هذه الواقعة هي التي استبدت في الغد بالصحافة، فخصتها بالعناوين الكبيرة. ترجم لي الشاعر كْريس سُونْغ زيجْيانْغ مقاطع من المقالات، بما فيها مقاطع من مداخلتي. وكان لنا، نحن الثلاثة، غسان ونجوان وأنا، نقاش مطول في الموضوع. فكل واحد منا كان يحرص على حق الفلسطينيين في رفض سياسة الدولة الإسرائيلية، منذ إنشائها حتى اليوم. ونحن، في الوقت نفسه، ننتبه إلى حساسية صورة الفلسطينيين لدى الرأي العام الدولي. وهذا ما تحقق فعلاً، حيث إن قراءات كل من غسان ونجوان لقيت ترحيباً وحماسة من طرف الشعراء والجمهور الحاضر في الأمسية. وهذا برأيي هو الأهم، لأننا لا يمكن أن نخل بالتزاماتنا، ولا أن نخلط بين الشعراء والسياسيين الإسرائيليين مهما تماهى الطرفان.
6
بعد الفراغ من العشاء، في ليلة افتتاح المهرجان، صاحبني الفرنسي جان ميشيل إيسْبيتاليي، والكندي إيتيان لالاند، لزيارة هونغ كونغ في الليل. تسمح لك المدن في الليل أن ترى ما توفره لأبنائها وزوارها من متعة. كان الشاعر الصيني الشاب جاكي هو الدليل الذي تعرفت عليه، وبمبادرة منه قادنا في جولة ليلية. ركبنا سفينة. لم تثرني العمارات المضاءة من داخل المكاتب والبيوت. لكننا توقفنا لمشاهدة واجهات أمامية لسلسلة من العمارات مزينة برسوم ضوئية، تتبدل بين حين وآخر. إنها سلطة الدعاية في مدينة هي القطب المالي والتجاري الأكثر ليبرالية على المستوى العالمي.
وطئنا أرض الجزيرة، فإذا بضفتها مخصصة لمركّب ثقافي فني، يشمل أوبرا ومتحفاً. وبينهما مكتبات ومعارض فنية وتمثال حديث. ساحات فسيحة ومشهد أضواء العمارات يقابلنا. هونغ كونغ بأسلوب أميركي على أرض صينية. لم نشعر في أي لحظة بما يهدد أمننا. زوار آخرون صينيون وغربيون، لعلهم بريطانيون، يتفسحون، يلتقطون صوراً ويضحكون. وعلى ناصية الطريق العام بناية، شرح لنا جاكي أنها كانت مقر الإدارة اليابانية، وهي تعود لمرحلة احتلال الجزيرة من طرف اليابان في فترة الحرب العالمية الثانية (1941 1945).
في صباح اليوم الثالث غادرت الفندق مصحوباً بالطالب شونغ. نصحني باستعمال الميترو في التنقل، لأنه أسهل وأقرب. وافقته. في جميع المحطات التي ركبنا أو نزلنا فيها كان الاكتظاظ شديداً. إلا أن الصينيين منظمون. فلا تدافع ولا تسرّع. الناس فرادى في طابور، ينتظرون دورهم عند الركوب والنزول. والشبان مشغولون بتبادل الرسائل في الهاتف، حيث تنظر كيف أصبح الهاتف المحمول هو العالم الحقيقي لهؤلاء الشبان. وبقية ركاب الميترو غالباً ما تشاهد شاشات التلفزة المعلقة تحت سقف الميترو مباشرة.
7
في كل مرة كنت أجدني مهتماً بأشياء بسيطة جداً. التحية. المشي. اللباس. الحديث. الحركات. وأخيراً وصلنا إلى معبد فونغ تايْ سينْ. الخط الصيني أول ما استقبلني. أبيات شعرية في سطر عمودي، محفورة ومذهبة فوق رخام ناصع البياض. هذا مدخل المعبد. مركّب في وسط المدينة والازدحام والضجيج. يشمل المركّب معبداً بودياً، ومعبداً تاوياً، ومعبداً كونفوشيوسياً، بناه أهل هونغ كونغ هدية للكاهن فونغ تايْ سينْ من القرن الرابع الميلادي. بنيات المركّب تتوافر فيها العناصر الهندسية الخمسة: جناح البرونز (المعدن)، قاعة الوثائق (الخشب)، نافورة يوك ييك (الماء) مع زهرة اللوتس، الحرَم يو هوينغ (النار)، الذي يوجد به تمثال بودا بالفانونس الموقد وجدار الأرض (الأرض).
أشد ما أعجبني هي البركة وجداول الماء والحدائق والصخور التي حفرت فوقها أبيات وأقوال تاوية. الأعمال الخطية التي كنت أود مشاهدتها وجدتها معروضة هنا بأشكال فنية وبأحجام متعددة، معيار جماليتها هو الرؤية البصرية. هذا المركب غاص بالمريدين الذين يأتون من كل مكان. أخبرني مرافقي أن هذا الحشد دائم، ويرجع إلى كون الناس يعتقدون أن دعواتهم هنا تستجاب بسرعة. لذلك يكثر المصلون والهدايا والبخور، كما تكثر دكاكين في الطابق السفلي، خارج المعبد، يجلس في مقدمتها عرّافون.
في صباح اليوم التالي دلني كْريس سُونْغ زيجْيانْغ على دير بودي وأوصاني بزيارته. رافقني جاكي إلى هناك، وبصحبتنا فليبو، البرتغالي، وكوكو ثيتْ، البُورْمي. هو مركب يجمع بين حديقة نانْ ليَانْ والمعبد البودي شي لينْ، تم الانتهاء من بنائه سنة 2006. هنا تعثر على عمارة أنيقة، بالغة الروعة، وعلى حديقة تأخذك بتؤدة إلى الجهة المحجوبة من الدهشة والصمت والتأمل، وعلى أجنحة هي عبارة عن قاعات، منها قاعة لعرض الصخور في حدائق الزن الجافة، المتقشفة، التي تعتمد على عنصر الرمل فقط، بداخلها أشكال مجردة متموجة. وفوق جدرانها، بمحاذاة الصخرة، معلقات خطية، يحيط صمتها بالمكان. على هذا النحو تستنشق أصفى أنفاس الكون. لا تفاضل بين الحديقة والدير. فهما يتآلفان، يحتضن أحدهما الآخر في تناسق وحميمية.
بني المركب على طراز المعابد في عهد سلالة التانغ (618 907). الحديقة تجسد معنى الزن والمعبد مرآة للبودية. تتكوّن الحديقة من الصخور والأشجار والشلال والبرك المزينة بالسمك المقدس والشجر المقدس وزهور اللوتس. طريقة تنظيمها والتناغم بين عناصرها وأجزائها هو ما يعطيها صفة الزن. فإذا كانت البودية فلسفة تستمد مبادئها من الطبيعة فإن الزن يعني تنظيم العناصر وتحقيق الانسجام بينها، وفق رؤية نستشفها من القدرة على خلق تناغم يستند إلى جمالية، قائمة على الرؤية البصرية لا على التناظر والتوازي.
زيارة هذا المركب يمكن أن تستغرق النهار كله، حيث لا تكون أثناءها مجرد زائر، بل تتحول إلى متأمل. في التأمل سر البودية وسر الزن على السواء. وفي جميع أقسام المعبد تراتيل بصوت خفيض، يتوقف لينطلق بدون أيِّ تبدل في النغمة أو مدتها الزمنية. كهنة بوديون حليقو الرؤوس، ينتقلون بين أجنحة المعبد أو يرتبون الهدايا من الزهور والفواكه التي يسلمها لهم البوديون الزوار.
هذا المعبد الحديث العهد يشير إلى ما توليه حكومة هونغ كونغ من عناية بالمعابد. فالمدينة تتوافر على معابد مختلفة الحجم، مقامة في شوارع مزدحمة ووسط عمارات شاهقة، كما توجد بها مساجد وكنائس. هونغ كونغ لم تعرف من قبل منعاً للمعابد على اختلاف دياناتها. ولذا نجدها غاصة بالمؤمنين الذين يتوافدون عليها بكثرة.
8
أمسيات الشعر في هونغ كونغ كانت منتظمة، لكل أمسية شعراؤها. كنا نلتقي كل يوم في مسرح متعدد الفعاليات الإعلامية يقع في مركز المدينة. حضور مكثف للشبان، منهم شعراء وفنانون. صمت يغطي القاعة بذائقة عالية. وبين قراءة وقراءة غناء عذب وموسيقى بالناي والقانون والعود. كنا ننصت إلى الشعر والموسيقى كما لو كنا في حلم يرف بأجنحة لامتناهية.
للشعر في هونغ كونغ ممارسون ومعجبون. وأنت تلاحظ تجمع الفنانين حول الشعراء، من أمسية إلى أمسية. وعلى مقربة من المسرح حديقة وادي كوولون، المصممة بمنظور الزن. أشجار وأزهار وشلال وبركة وصخور وألواح رخامية مخططة. بين موسيقى الشعر وموسيقى الطبيعة تمشي، تشاهد وتتنفس. عالم أقوى من عالم يدمر الحرية والجمال.
تلك هي أمسيات هونغ كونغ العالمية للشعر. مدينة التجارة والصناعة والمال هي نفسها التي تستقبل الشعر بحفاوة وكرم. وبين جميع الشعراء أنفاس من الأخوة تجري. أحاديث في كل مناسبة. وتحس أن الشعراء يحرصون على مرافقة غيرهم، من طرفي العالم. أفتح مجلد «هوينان زي» وأقرأ:»الإنسان الحقيقي يرفض أن يتبع مسار طريق واحدة، أن يغلق على نفسه في زاوية ضيقة لفكرة واحدة، أن يترك نفسه ترتبط بتداخل الأشياء، وأن يصبح قادراً على التغيّر مع الزمن».
_______
*ملحق الاتحاد الثقافي