الطريق إلى سلامة موسى


*د.حسن مدن


في مرةً، منذ سنوات، كنت في مدينة الإسكندرية، قاطعاً طريق صفية زغلول آتياً من محطة الرمل المطلة على البحر الأبيض المتوسط، في امتداد الطريق البحري المُدهش الذي يبدو كأنه يطوق البحر، المبتهل إلى السماء، بذراعين ممتنتين، حانيتين، رُحت أحدق في المباني الجميلة على جانبي الشارع، أو في شارع فؤاد المتقاطع معه. في ذلك الزمن، الذي يبدو الآن بعيداً، أتى أمهر المهندسين والبنائيين ليصمموا هذه العمارات البديعة المتساوية في ارتفاعها، بفنون العمارة التي جعلت منها إعلان حداثة، في هندسة عمرانية بديعة لمدينة تملك سحر الإغواء لقاصديها، الذين لا يمكن إلا أن يقعوا في حبها. وأنا أمشي الهوينا استوقفتني فترينة مكتبة، وككل المرضى بالكتب، تسمرتُ مكاني هنيئات أطالع ما ظهر من العناوين، قبل أن يباغت نظري اسم المكتبة: سلامة موسى!
كان ذلك وحده سبباً جديراً بأن يحملني حملاً على الدخول وأنا شغوف بمعرفة السبب الذي جعل صاحبها يختار لها هذا الاسم، الذي من معطف كتبه خرجنا كلنا، إذا ما استعرنا عبارة تولستوي الشهيرة: «كلنا خرجنا من معطف غوغول»، في إشارة إلى العمل الشهير «المعطف» للكاتب الروسي غوغول. وأعني بـ «كلنا» ذلك الجيل الذي إليه أنتسب الذي لسعتْهُ كتب سلامة موسى بـ «حرقة الأسئلة»، إذا ما استعرنا، مرة أخرى، عنوان كتاب الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي، وهذا حديث لا تتسع المساحة هنا لشرحه.
واجهتُ عناوين كتب سلامة موسى، وبعضها بأغلفة الكتب القديمة التي رأيتها حين قرأتها أول مرة قبل عقود، والتي لكثرة ما تداولتها الأيدي، يومذاك، كادت أن تُبلى. وعلى أحد الرفوف وقعت عيني على كتاب لصديقي الباحث والناقد المغربي كمال عبداللطيف بعنوان: «سلامة موسى وإشكالية النهضة»، وعلى ما قرأتُ لكمال لم أقرأ هذا الكتاب. ولكي يكتب كمال عبداللطيف عن سلامة موسى لم يعد فقط إلى كتب هذا الأخير، وما أكثرها، وإنما عاد إلى نصوص فرح انطون ولطفي السيد وطه حسين، ليرى أن ما فكر به سلامة موسى في حينه يندرج في إطار منظومة فكرية واسعة ومتعددة الاهتمامات، يوم كانت الاسكندرية وبيروت وسواهما من المدن المفتوحة على البحر، والمنفتحة على المستقبل ترسم لنا خريطة الطريق للخروج من دائرة التخلف.
أشبع البائع الفضول الذي إنطوى عليه سؤالي عن السر في إسم المكتبة، فهي لا تحمل إسم سلامة موسى تيمناً بفكره فحسب، وإنما هي مكتبة عائدة له شخصياً وأن إبنه الدكتور رؤوف سلامة موسى ورثها عنه، وواصل الحفيد الذي إسمه سلامة بالمناسبة تقليد جده وأبيه فاستمر في جعلها مكتبة، ولم يحولها إلى «بوتيك» أو يؤجرها إلى شركة ماكدونالدز أو بيتزا هت أو سواهما، هي التي تقع في شارع إستراتيجي في قلب الإسكندرية. من تلك المكتبة إقتنيت كتابين أو ثلاثة لسلامة موسى سبق لي أن قرأتهما بين نهاية الستينات ومطالع السبعينات الماضية، وإليهما أعود مراراً إيماناً، بيقين الصديق كمال عبداللطيف، أن كتب سلامة موسى تجعلنا نزداد اقتناعا بأهمية تعزيز دوائر الوعي النقدي الذي يمكن أن «يساهم في وقف مسلسل العودات».
تحت الوقع المدوي لهزيمة حزيران 1967، كتب عبدالله العروي كتابه: «الإيديولوجية العربية المعاصرة». والحق أن تلك الهزيمة، على فداحتها، غدت مجرد واحدة من سلسلة هزائم ونكبات تلتها، لا تقل عنها فدحاً، إن لم تبزها، ولكنها، على أي حال، شكلت الإنعطافة الأولى نحو مسلسل الهزائم ذاك .سعى العروي لتقصي جذور الأزمة في العالم العربي، وهي أزمة سابقة لهزيمة حزيران، بل لعل تلك الهزيمة نتيجة من نتائجها، وكونه مشتغلاً بالفكر صنف الباحث الاتجاهات السائدة فيما دعاه ب «الإيديولوجية العربية» في ثلاث خانات رئيسية، متخذاً من مصر حقل دراسة ورصد، لأنه يراها، وهو محق تماماً، أسبق الأقطار العربية تطوراً.
في الخانة الأولى وضع العروي الإتجاه الديني ممثلاً في الإمام محمد عبده، وفي الخانة الثانية وضع الإتجاه الليبرالي ويمثله أحمد لطفي السيد، أما في الخانة الثالثة فوضع الاتجاه العلماني القائل بالتطور الاقتصادي والثقافي ويمثله سلامة موسى.
أساس هذا التبويب في الخانات الثلاث يعزوه الباحث إلى السبب الذي يرد به ممثلو كل اتجاه أسباب التخلف في العالم العربي، بين من يراه في الإبتعاد عن الدين، ومن يراه في غياب الديمقراطية، ومن يراه في عدم عصريتنا.
الأرجح أن عبدالله العروي لجأ إلى هذا التبويب تحت ضرورات البحث الأكاديمي الذي يتطلب عادة إظهار الفروقات أو التمايزات، لكن هذا التبويب قد يستدعي بعض الملاحظات، فرغم أنه لا غبار على أن محمد عبده مثلَّ الاتجاه الديني، لكن الإمام لم يضع الدين في مواجهة الحداثة، بل إنه في دعوته للإصلاح الديني كان مجدداً، حتى لو تحفظنا على وصفه بالحداثي، فالتجديد، بالمعنى الذي قصده محمد عبده، كان دفعاً في اتجاه الحداثة. ولنا أن نعقد مقارنة بين ممثلي الاتجاهات الإسلاموية الحالية ومنهج محمد عبده لنرى الفرق، ولا نتحدث هنا فقط عن الاتجاهات التكفيرية منها وحدها، وإنما حتى تلك التي تزعم أنها معتدلة مثل «الإخوان المسلمين» أو «حزب الدعوة».
الملاحظة الثانية تتمحور حول السؤال: إلى أي درجة بوسعنا أن نضع أحمد لطفي السيد وسلامة موسى في خانتين مختلفتين؟ فعلى الرغم من الفروقات لا نحسب أن الأخير كان أقل حماسة للمسألة الديمقراطية من الأول، حتى وإن طغى الطابع التربوي التثقيفي على مؤلفاته. ولا نحسب أن أحمد لطفي السيد كان أقل حماسة للحداثة منه إلى الديمقراطية، حتى وإن غلبت الدعوة للأخيرة على مؤلفاته.
الخلاصة: أن التجديد الديني، والحداثة، والديمقراطية أقانيم متلازمة غير منفصلة، لاتقوم قائمة لأحدها من دون الركنين الأخريين، ولكن يظل أن سلامة موسى مثل تجاوزاً لمن وضعهم العروي في الخانتين آنفتي الذكر، لذلك فإن الحاجة إلى فكره تزداد ولا تنقص، تتجدد ولا تتقادم، خاصة وأن مؤلفاته، بالسهل الممتنع الذي كُكتبت به، قادرة على مخاطبة أذهان قطاعات واسعة من القراء والمهتمين، ولا تنغلق على مخاطبة النخبة وحدها.
سلامة موسى مؤلف كتب، لكنه إلى ذلك، وربما قبله، من أهم كتاب المقالة الصحافية التنويرية، وفي أوائل ستينيات القرن العشرين أصدر كتاباً عن الصحافة أسماه: «الصحافة حرفة ورسالة»، قال فيه ان «الصححي الممتاز هو الذي يكون قد وصل إلى الصحافة بعد أن إنصهر في بوتقة الآداب والعلوم والفنون»، لأن ذلك يجعل منه، أي من الصحفي، على معرفة وتقدير لتولستوي وغوته، ويمكنه من أن يفكر بعقل فولتير حيث يتحدث عن قانون المطبوعات في مصر. في كلمات موجزة: «الصحفي الممتاز هو الفيلسوف الأديب العالم الفنان». هذا ما يشدنا إلى لغة سلامة موسى التي تجمع بين العمق والبساطة، وهذا ما نلمسه في سيرته الذاتية التي كتبها عندما كان في الستين من عمره بعنوان «تربية سلامة موسى»، وفيه خصص فصلاً عما سيفعله خلال السنوات العشر المقبلة من عمره، أي حتى يبلغ السبعين. قال إنه يثب إلى ذهنه في أول البرنامج أن يقرأ بعض الكتب، أو يعيد قراءة بعضها مما ترك في نفسه شكوكا أو شبهات ثقافية.
وأعطى مثلا على ذلك بكتاب: «الغصن الذهبي»، وقال أنه سبق أن قرأ التلخيص الذي يزيد على ألف صفحة، ولكنه ينوي قراءة الأصل الذي يزيد على عشرين مجلدا. هذا الكتاب هو كنز للثقافة القديمة، حيث شرع الإنسان البدائي يتحسس الدنيا ويتعرف إلى حقائقها، ويحاول أن يستخلص منها منطقاً مفهوماً. ومن أطماعه الثقافية أيضا أن يجعل علاقته بأرسطوطاليس حية أكثر مما كانت عليه وقد بلغ الستين، ويقول إنه لو بلغ من المعرفة بأرسطو ما بلغه بغوته أو برنارد شو، لعَّد هذا فوزاً عظيماً في حياته. أضاف صاحبنا، رحمة الله عليه، انه سيكون له كفاح ثقافي في مصر، فلن يكف عن تأليف الكتب المقلقة، خمائر أخرى يبعثها في أنحاء الوادي وغيره من الأقطار العربية كي يزعزع البالي من التقاليد، ويحرق العفن الذي تركته على العقول المطموسة، لأنه يرى أن من مسرات حياته أن يجد مؤلفاته تسري في الجسم الاجتماعي على مهل وفي غير عنف، فيأخذ التطور مكان الجمود، والنزعة الارتقائية مكان الرجعية الجامدة، ثم إنه رجا أن يكون له كفاح في مصر، ورغم انه رسم صورة سوداوية للوضع حينذاك، لكنه قال إن هذه الصعوبات يجب أن تزيد الحماس والغيرة لمكافحة الاستبداد، وتمنى أن يكون له نصيب يمتعه بهذا الكفاح الذي يطمع في الاشتراك فيه.
ثم سرد سلامة موسى سلسلة من الأمنيات «الصغيرة»، كأن يقعد في مقهى في البوليفار في باريس، ويناقش في السياسة، وأن يزور إفريقيا والصين، لأن «من واجب من يعيش في الدنيا أن يرى الدنيا»، وقال أنه يحب أن يكون من برنامجه قضاء السنوات الخمس الأخيرة من عمره في الريف، يصادق الخراف والبقر والشجر، ويتحدث إلى النجوم، ويحيي الشمس في الصباح، ويضحك مع الماء يجري بين النبات. وزاد على ذلك: انه لا يريد لهذه السنوات الخمس أن تكون هي السنوات الخمس الأخيرة من عمره!
بعيداً عن فكرة أن سلامة موسى صاغ هذه الأمنيات، أو الخطط بتعبير أدق، وهو في الستين، فإنه بوسع كل منا أن يفعل الشيء نفسه بصرف النظر عن عمره: ماذا ينوي أن يفعل خلال الخمس أو العشر سنوات المقبلة؟!
_________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *