التخلف الآخر


الدكتور فيصل غرايبه




عشت في تونس ما بين منتف الثمانينيات الى نهايها، حيث كنت اعمل في جامعة الدول العربية التي كانت تتخذ من تونس مقرا مؤقتا لها اثر تداعيات اتفاقات كامب ديفيد، وهناك تعرفت على نخبة من المفكرين والأكاديميين والخبراء من تونس خاصة ومن الدول العربية عامة، وكان من بينهم: عبدالوهاب بوحديبة وخميس طعمة الله ومحمد الباقي الهرماسي وحافظ ستهم ومحمود الذوادي الذي اطلعت على كتاب متميز له بعد عشرين عاما من تعرفي عليه، حيث كنت في ذلك الحين أدرس في جامعة البحرين. هذا الكتاب الذي يتحدث عن التخلف الآخر.والتخلف الآخر هو المصطلح الذي قصد به محمود الذوادي في كتابه الذي يحمل الأسم نفسه (دار الأطلسية،تونس) ذلك التخلف الثقافي الذي أهملته الندوات العالمية ودراسات التنمية.وكلمة (الآخر) تشير هنا الى حالة الجهل والنسيان السائد بين المهتمين بالتنمية حيال التخلف. ويتناول الذوادي عولمة أزمة الهويات في الوطن العربي والعالم الثالث في أربعة أبواب .
ففي فصله الأول من بابه الأول ينطلق المؤلف من القول المشهور ان غزو ثقافات الشعوب أخطر من غزو العساكر لأراضيها والذي تمثله اليوم الأمبرالية الثقافية ولكي نفهم هذا الغزو لابد من فك الغاز طبيعة الانسان الذي الرموز الثقافية روحه وتحوله الى رموزي ثقافي بالطبع أولا.ويستشهد المؤلف بالفتوحات العربية الاسلامية التي تفيد بأن الانصهار الثقافي يتم متوفر عاملين هما نشر الرموز الثقافية بين الشعوب وتعليم اللغة العربية لأهالي البلاد التي فتحت ، وبالتالي ثقافتها . فأصبحت الوحدة الثقافية بمفهومها الشامل واقعا مجسما بين المجتمع الذي انطلقت منه الدعوة الاسلامية وبين سائر الأقطار التي دخلت الاسلام وأصبحت لغة الضاد عندهم لغة التعامل ولغة الثقافة .
وبقراءته السوسيولوجية لعالم الرموز الثقافية يكشف الذوادي عن أن هذا العالم ينطوي على لمسات ميتافيزيقية ( ماوراثية ) ، ويتوصل الى أن ثورة الاتصالات ينبغي أن يفهم أن حدوثها لا يرجع الى تكنولوجيا الاتصال حسب ، وانما الى طبيعة عالم الرموز الثقافية أيضا . فبالكلمة يتم التواصل بسرعة بين المجتمعات والأفراد . وهذه السرعة تتأثر بطبيعة اللغة نفسها كأهم رمز ثقافي يملكه البشر 
ان الكائن الانساني يستمد من عالم الرموز الثقافية حرية العمل والاختيار والاختلاف عن الآخر ، ومن ثم فالسلوك البشري يتمتع بامكانيات ضخمة من المرونة .. ومن هذا المنطلق ليس من العجب أن تفشل تنبؤات دراسات السلوك في كثير من الحالات في التوقعات الحقيقية لسلوك الناس.ويستشهد المؤلف ببيت الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي ( اذا الشعب يوما أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر ) على دلالة قوة المدلول الميتافيزيقي لقيم الحرية والعدالة والمساواة كرموز قادرة على شحن الأفراد والجماعات بطاقات هادرة .. وهو يعتبر الوطن العربي نتيجة لعالم الرموز الثقافية، وذلك عن طريق انتشار الرموز الثقافية واللغة العربية على رأسها التي حققت الانصهار الثقافي على يد الفتح الاسلامي ولغة الضاد، فأعطى لهذه الرقعة الجغرافية تواصلها الروحي والثقافي شيئا من الخلود والأبدية.
وينتقل المؤلف الى المجتمع الكندي، حيث تزداد رغبة المقاطعة الوحيدة التي تستخدم اللغة الفرنسية(كيباك)بالأنفصال عنسائر المقاطعات التي يضمها الاتحاد الكندي وتتكلم اللغة الانجليزية، حتى ان احد علماء الاجتماع الكنديين (من ذوي الثقافة واللغة الأنجليزية واللغة الفرنسية) بجدار برلين، اذ رغم أن الانفصال السياسي لم يحدث ، فأن الانفصال الثقافي والروحي هو الذي حدث الأمر الذي يريد الماتب أن يهمنا من خلاله أن الرموز الثقافية تمثل العامل الأكثر حسما لتكوين الهوية الحماعية للجامعات والشعوب .
ويضع الذوادي الواقع الاجتماعي في الوطن العربي والعالم الثالث أمام الاختيار. محاولا طرح مفهوم ( التخلف الآخر ) والذي يقصد به حالة تدهور ( ضعف / تخلف ) نمو عناصر التراث الثقافي للمجتمع السائر في طريق النمو ، وما يقترن بذلك عادة من تدهور نفسي تتمثل بعض أعراضه بالشعور بالنقص وضعف الثقة بالنفس بين أفراد المجتمع . خصوصا ازاء الطرف الغالب والغازي .
ويرجع الذوادي أهمية مفهوم (التخلف الآخر) الى أن الانسان كائن ثقافي بالطبع كما هو كائن اجتماعي بالطبع ، حيث تصبح الحياة الاجتماعية للأنسان محدودة المعنى من دون رموزها الثقافية والتي تتصدرها الرموز اللغوية .. فهي الفاصل بين عالم الأنسان وعالم الحيوان . والصمت عن أهمية الجانب الرمزي الثقافي من الانسان هو تجاهل لطبيعة الانسان نفسها . 
يخلص المؤلف الى أن أكبر مصيبة يمكن أن تصيب أي مجتمع هي مصيبة تشويه شخصيته وانحلالها في رموز ثقافية خارجية غازية . والغزو الثقافي هو غزو للمجتمع والثقافة من الداخل (غزو للكيف) أي تسلط وسيطرة على عقل المغلوب وروحه. ويقودنا عرض الذوادي الى خطأ النظر الى التخلف بعين واحدة لا بعيون متعددة. بحيث يرجع الباحثون الظواهر الاجتماعية بما فيها التنمية والتخلف الى سبب واحد قد حصل. اذ أن اكتشاف القوانين الني تتحكم بالمجتمع عموما والظاهر الاجتماعية خصوصا لا يمكن حدوثه دون التعمق بدراسة المعطيات الواقعية الكاملة للمجتمع والظاهرة معا .
ويدعو المؤلف هنا الى الاتكال على الذات في العلوم الاجتماعية . وعدم الاعتماد الكلى على العلوم الاجتماعية الغربية التي أستوردها العلماء الأجتماعيون العرب واستخدموها كما هي. فالتخلف الآخر تعطيل لقدرات الانسان وطاقاته من الداخل، وسلب الانسان لأهم رموزه الثقافية هو سلب لأنسانيته ، وأي تغيير لمعالم شخصية الانسان العربي للنجاح في التنمية لن يكون له معنى ان لم يشمل تغيير عناصر التخلف الآخر .
ويعتبر المؤلف أن اعطاء الجوانب الثقافية أهمية مميزة في فهم الانسان ومجتمعه هو ترميم شرعي لأصلاح صورة الانسان التي شوهتها الرؤى الغربية التي يغلب عليها المادية والتحيز الى ثقافته. وهو يحمل المدرسة والجامعة في المجتمع العربي مسؤولية التدهور اللغوي، ويطلبها بأن يصبح اتقان االفصحي من أهم مشاغلها ، ولا ينسى أن يعطي الأسرة أهمية ثالثة لحماية هذه الفصحي. كما ينذر بالخطر ويبدي التشاؤم فانه يقترح حملات توعية ومكافآت للمدرسين والطلبة في الجامعات ممن يعنى بالفصحى .
وينهى الذوادي الباب الثاني بالتساؤل : هل نستمر في تحفيز أنفسنا هامسين أو صارخين؟ وهل يعقل أن نستمر بالأعتقاد بأن الغربيين بطبيعتهم وعرفهم هم وحدهم أهل التطور والتقدم، أما نحن فمحكوم علينا بالجمود والتأخر؟وينبه في الباب الثاني الى ظاهرة التعريب اللغوي والثقافي، والتي أنجز عنها ظاهرة الاستعداد للأنسلاخ عن الذاتية اللغوية الثقافية المغاربية والأنضمام الى الذاتية اللغوية الثقافية الفرنسية. ويرد المؤلف أصولها الى نوعية اللغة أو اللغات والثقافة التي يتعلمها وويتقناه في تونس وزالجزائر والمغرب بالمرحلتين الابتدائية والثانوية… والنتيجة‘ اذا ما تعلم التلميذ وسيطر على لغته وثقافته،فقد نجا من السقوط في عقدة التخلف الثقافي وانعكاساتها على مستوى الشخصية الفردية والجماعية. وبالتالي على مستوى السلوك.
ويطرح التساؤل:هل هناك خروج من الاستعمار الثقافي؟ ويحاول وأن الحضانة اللغوية والثقافية الوطنيين يمكن اكتسابها عن طريق التعليم، وهي تشكل مناعة الشعوب ضد أي سقوط في حالة الالتخلف الثقافي من جديد وبما له من تداعيات نفسية وسلوكية 
وفي نظرة سوسيولوجية الى أسباب نجاح وتعثر توطين اللغة في تونس والجزائر و(كيباك) الكندية، شرع يبحث عن النموذج المثالي ( حسب اصطلاح ماكس فيبر) لتلك العوامل التي تساعد أو لا تساعد المجتمع في اتخاذ قرار أو عدم اتخاذ قرار لتوطين اللغة الوطنية. وقد كشف عن دور القرار السياسي في عملية توطين اللغة العربية في تونس والجزائر،وعن عكس ذلك في القرار السياسي في( كيباك)الذي توجه نحو فرنسية المجتمع وتبين له أن التكوين الثقافي للقيدة السياسية ذو دور حساس في فهم حيثيات لاقة الارتباط هذه 
ويركز الباب الرابع والأخير من الكتاب على التخلفالآخر في المجتمع التونسي ، وهو المجتمع الذي ينتمي اليه صاحب الكتاب ويدرس علم الاجتماع في جامعته الوطنية في تونس العاصمة. فيعرض ظاهرة، المزج اللغوي في المجتمع الفرنسي، ويورد صورا حية معاشة لشيوع هذه الظاهرة، التي تؤدي وظيفة نفسية عند مستخدميها هي حب الشعور بالأنتساب الى العالم المتحضر، وظيفة هو تكلم لغة الحضارة الغربية ومزجها باللغة العامية بالمجتمع التونسي.ويشير الذوادي الى عهد الأستقلال ، وكيف أن الساسة آنذاك كانوا يعتبرون ان تعرب التعليم قد أدى الى تردي مستوى التلاميذ ، ولذلك فقد حد من ايفاد الطلاب للدراسة في المشرق العربي، ولم تقم أية توعية لاستعمال اللغة العربية وثقافتها، فيسجل مواقف سالبة في شركة الخطوط الجوية الوطنية وكلية العلوم الانسانية والاجتماعية في الجامعة الوطنية بالعاصمة،وكذلك يسجل الميل الكبيرفي الأوساط الاجتماعية لستخدام الفرنسية لا العربية .
هذا الوضع ينقل المؤلف الى الحديث عن الحلقة المفقودة . ألاوهي تقنين المسألة اللغوية، اذ لا رقابة ولاحزم يذكر لاستعمال العربية في المناقشات والمراسلات والتدوين بالمؤسسات الرسمية. وهو يستخدم مفهوم العمى الجماعي لتوصيف ظاهرة عدم الوعي وفقد الحماس لدى المواطن التونسي نحو التعريب، مما يجعل الهوية الوطنية أكثر تضررا، مما أفقد المجتمع علاقته الطبيعية والعضوية مع لغته الوطنية. 
يشكل الكتاب دعوة الى محاربة التخلف الآخر على الساحة العربية بالعلم والوعي والرأي الجمعي والحس الوطني ، وهو يقدم نموذجا عربيا واضحا لقضية توطين العلوم الاجتماعية في المجتمع العربي، نأمل أن تزخر المكتبة الاجتماعية العربية بالعديد من أمثاله على مدى سنوات القرن الجديد ..


*خبير في التنمية الاجتماعية وباحث في قضايا المواطنة 

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *