*علا المصياتي
باريس- كوبنهاغن، الدنمارك في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، مدينة هادئة تنبض بالفن التشكيلي، يساندها حضور خاص للطبيعة متوجةً قصة حب وانقلاب جنسي. لوحات من الفن الحديث، ألوان وفساتين، رقة عذوبة ورومانسية مفرطة.
هذا ما تبوح به المشاهد الأولى، إلى جانب ذلك يخبو حضور أنثوي خجول ليطغى تدريجياً على كل شيء، ويفصح بشكل قوي عن سعادة تلك الأنوثة المختبئة خلف الابتسامات الظاهرة على الوجوه البشوشة، فلا شيء يعكر صفو متعة الحب عند المحبين هناك.
يلعب كل من الممثل إيدي ردماين والممثلة إيليشا فيكاندر دوراً خاصاً في فيلم «الفتاة الدنماركية» للمخرج توم هوبر، الذي وقّع قبل أعوام نسخة سينمائية محدّثة لرواية «البؤساء»، وسبقها فيلم الأوسكار ذائع الصيت «خطاب الملك».
حب وشغف.. أيّنا أكثر أنوثة
«متى أصبحت بالغ الحسن هكذا» تقول المرأة لزوجها، وكيف نحب بهذا الشغف ولا نرى من نحبه أجمل وجه؟ ولكن كيف إذا كان هذا الحُسن كله متخفيا في ابتسامة رجل جميل الطلة. منذ البداية يكشف لك عن سره، فإذا أفسحت مجال خيالك لحساسيته الخجولة ستحبه لا محالة. فالأمر لا يقتصر هنا على إعجاب امرأة بارعة الحسن والجمال فقط، ولكنه يرتبط بشكل أكبر بما يتسم به كل ما في هذا الفيلم، من جاذبية ولمعان.
على وقع هذه المفردات يبني توم هوبر هذه الدراما. فبين صخب العالم الأنثوي والرغبة في الدخول إليه يقف «ليلي» وبكل حسن ورتابة؛ يتعامل مع جسده بغاية اللطف، هو رجل ذواق بأنامل نضرة وطلة بشوشة، يرى أنه من غير العادل ألا يكون ما يريد، لطالما اقتنع ورغب ووجد من يساعده، فيقدم على عملية تحول جنسي لتكون أول عملية من هذا النوع تحدث في العالم. ولكن بعيداً عن التوثيق والحفظ، فالفيلم يقف عند حساسية ما سيحل بهذا الشخص الشغوف اللبق، وما أجدر من كلمة شغف لتوصيف هذا الفيلم. في خط درامي مقابل لذلك وأكثر حساسية تقف زوجته العطوفة الوفية، التي تشكل تضحيتها جوهر العلاقة بينها وبين زوجها، الذي سيتخذ قراراً يؤدي بهما لفراق جسدي حتمي، فيدفعها حبها له لتقديم هذه المساعدة، فهي أول من رأى جماله وحسنه كامرأة ترتدي الجوارب الشفافة والفساتين الكبيرة.
الحب، التكامل والدعم المعنوي، كل هذا يجعل من تلك العلاقة الزوجية ناجحة، وهذا ما يدفع «إينار» بالضرورة للقيام بهذه العملية أكثر من تردده قبلها، فهناك من سيحتضنك ويحبك أكثر عندما ستكون كما ترغب كما تحب، وعلى هواك. وما الدراما إلا قصة أهواء تتكامل وتتعارض فيظهر هذا الفيلم كأيقونة أنثوية مفرطة في الأناقة. بحسب أحداث الفيلم تبدأ الحكاية عندما تتأخر راقصة باليه عن جلسة رسم مخصصة لها، فيتطوع إينار لمساعدة زوجته عبر ارتداء خُفّي الراقصة وجواربها، والجلوس في الوضيعة المناسبة للرسم بدلاً منها.
فيستمتع إينار بتلك التجربة ويكررها بحضور حفلة راقصة مع زوجته وهو يرتدي ثياب امرأة، هنا يشعر بسعادة غامرة خاصة في بادئ الأمر، ولكن في الحقيقة فإن ما يفكر به إينار حصل قبل الرغبة بلعب دور العارضة. حيث يضعك المخرج من البداية أمام حساسية ونعومة شخصيته. يسخر إينار وغيردا من لعبة التظاهر التي أدياها. ولكن في نهاية المطاف، يبدو الرجل على استعداد للإقرار بأنه لا يريد فقط أن يبدو كامرأة، بل أنه يرغب نفسياً وبدنياً في أن يصبح كذلك.
وبعد أن يأخذ إينار قراره بالتحول إلى «ليلي»، لا يبدو عليه القلق أو التراجع، فيذهب لمراجعة عدد من الأطباء لإجراء العملية، بعضهم من يتهمه بالجنون والاضطراب النفسي، وبعضهم من يرفض ذلك، ورغم ذلك يستمر بقناعته هذه. فبعيداً عن الصراعات الداخلية التي قد تجتاح المرء قبل الإقدام على أفعال كهذه، يقف إينار بإدراك وفهم عندما يريد، لا تراجع رغم الخسارات، وبعيداً عن فوضوية هذه الأحداث في الحياة الواقعية، فإن إينار يواجهها باتزان بادٍ على ابتسامته ورشاقته حتى بعد تعرضه للضرب والإهانة.
تحمل «غردا» عبء تسلسل الأحداث، فهي التي أعلنت، بموافقتها واحتضانها لرحلة التحول هذه، بدء هذه المغامرة النفسية. وكما يحدث، في حقيقة الأمر، فلن يكون كل شيء مثاليا، ومن جهة أخرى فالحيوية النفسية والتقبل واضحة على ردة الفعل والتشجيع، فبين العبارات القصيرة والابتسامات الهادئة تسعى مع زوجها نحو ما يريد، ولكن عند الإرهاق والحاجة تجد نفسها خاسرة، وريثما تتعايش بوعي كبير وتدريجي مع حقيقة هذا التحول. فيغدو الأمر محكماً خاليا من التصدعات الانفعالية، وكأن كل من يعمل في هذا الفيلم اتفق على الرتابة والسلاسة. فتواجه كل هذا الزخم الصُوري والاحتياج العاطفي بمشاهد طبيعية يليها حضور جذاب وشيق لرغبات إينار/ ليلي أمام جاذبية غردا في انتظارها.
من واقعية مفرطة إلى تكثيف رمزي
رغم اتساق الطابع الفني لكل شيء، وتعاطفك واستمتاعك بخصوصية الحدث، سيعطيك شعوراً بأن شخصية الزوجة هي الشخصية الوحيدة التي سُمح لها بأن تكون ذات أبعاد بشرية معقدة، حيث عليها التقبل التعب حيناً والاستمرار في كل ذلك أحيان أخرى، في حكاية ربما تقوم على تقديم شخصيات أشبه بالرموز البراقة اللامعة، في إشارة إلى أن «ليلي» أصبحت رمزاً لحركة تحررية في العالم، في عصر التمرد والانفتاح ورغبة التجريب، فتظهر أحياناً كأمر طبيعي لاكتمال المضامين الفكرية، ومرةً أخرى كقصدية مباشرة جبرية. ولكن بكل تأكيد لولا الأسئلة القصدية لما وُجدت إشكاليات رمزية القضايا، فلا أحد ينوب عن أحد بطرح قصته، وعموماً لولا وجود شغف البحث والتجريب لما وجدت الدراما.
وبعد أن لعب كل من الممثلين دوراً مميزاً في هذا الفيلم خوّلهما الترشح لأوسكار أفضل ممثل، أفضل ممثلة مساعدة؛ تتراوح الآراء بينهما على من يستحق أوسكار هذا العام؟ وكان ردماين قد حصل في العام قبل الماضي على أوسكار أفضل ممثل عن دوره في فيلم «نظرية عن كل شيء» قصة حياة العالم الشهير ستيفن هوكينغ. وهو اليوم ينافس وبقوة على أوسكار آخر.
_________
*القدس العربي
*القدس العربي