*د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب
كبرت أنا
ليلة رأس السنة هذه فرضت علي عمري بشكل صارم، ذكرتني بالذي كان وما عاد، فأرخت سنوات حياتي أمامي، بعيدة سريعة غارقة في الحنين، في رأس السنة هذه لم يكن لدينا مخطط احتفال، في آخر لحظة بحثت عن جلسة عود هادئة ووجبة دافئة نختم بها أنا وزوجي السنة الماضية، اتصلت هنا وهناك، بحثت “إنترنتياً” وآخر ما تعبت استنجدت بأصدقاء “تويتر”، لم يكن هناك أثر لحفلة غنائية أو عشاء طربي في أي مكان عام في الكويت، أفضل ما حصلت عليه هو مطعم بلا أي برنامج موسيقي، فقط لديهم، بكلمات محدثي، عد تنازلي كمظهر للاحتفاء. لا أدري لماذا شعرت عندها بثقل سنواتي الثلاث والأربعين على قلبي، هذه السنوات التي وبينما هي تسري فصلتني عن أيام أجمل، أيام أكثر بهجة، عندما كانت الكويت تموج بالاحتفالات في كل المناسبات السعيدة، عندما كان المغنى والطرب جزءاً طبيعياً من عشاءات الاحتفاءات، عندما كانت جلسة عود لا تعتبر كفراً وحفلة غنائية لا تعتبر عيباً و”بروغرام حفل” لا يعتبر خروجاً عن التقاليد.
كبرت أنا
اجترت ليلة رأس السنة بظلها الثقيل كل ما كان من الإيقاعات الحياتية المعتادة التي أصبحت الآن ذكريات ماضية، كل المسلسلات التي كبرت معها وأحببتها أصبحت كلاسيكيات الآن، نجوم سينما ومطربو ربيع عمري بدأ يغيبهم الزمن إما جسدياً أو من ذاكرة الناس، ويمبي، مطعم الهمبورغر الأول في الكويت، اختفى أو يكاد، السالمية القديمة الفخيمة، مكان تسوق علية القوم أصبحت سوقاً مهملاً بعد أن سرقت المولات الجديدة ألقها، سندويتشة شاورما وجلسة على البحر وكاسيت في السيارة يشدو بصوت عبدالكريم أصبحت عادات نتذكرها من خلال مسلسلات تحكي عن “الكويت القديمة”، ديسكو الهوليداي إن ولؤلؤة المرزوق بأرضيات الرقص الخشبية، والشباب والبنات يرقصون على أغاني البوب لمايكل جاكسون، اختفيا لتحل محلهما المراكز التكفيرية ذات الإضاءات، ويا لسخرية القدر، المشابهة للمراقص الرخيصة، الكويت التي كانت مقصد الناس في وقت الإجازات والاحتفالات أصبحت فارغة صامتة قاتمة في أوقات الفرح والسعادة، لأنه يبدو أنه بالنسبة إلى وعاظها وحكام دينها، الفرح والتدين لا يجتمعان.
كبرت أنا
أصبحت دمعتي قريبة مع توارد الذكريات، الصعود على متن طائرة الخطوط الجوية الكويتية موقف وطني وعودة لماض حميم حين كانت تنقلنا هذه الطائرات بلا كلل أو ملل بين مقار دراستنا والوطن، اللون الأزرق يمثل الكويت وطائرتها وكرتها، و”أو يا الأزرق” يدق مسمعي كما النشيد الوطني، في يوم احتفالية افتتاح استاد جابر تكلمت كثيراً عن الفساد وعن الرياضة الكويتية، وتشكيت و”تحلطمت”، وما إن بدأ نجوم الغناء يشدون كل تلك الأغنيات التي كبرنا معها، حتى ذاب القلب في محبة وحنين لا يعرفان شيئاً عن الفساد وغضبه وعن السياسة ومعارضتها، شعرت بضغطة كف زوجي على كتفي وسمعت حشرجة في حلقه، والأولاد ينظرون إلينا بابتسامة نصف ساخرة نصف مستفهمة، غير مستوعبين تماماً كيف لأغنية أو وجه نجومي أو علم يلتف على جسد صغيرة راقصة أن تؤجج كل هذه المشاعر الفياضة والدموع الحبيسة، وكيف لهم أن يفهموا؟ بينهم وبين استيعاب اللحظة وتذوق الشعور سنوات طوال وماض يصنعونه أولاً ليصنع لهم الحنين لاحقاً.
كبرت أنا
فقدت آخر جداتي هذه السنة، تراكم الابيضاض على أطراف شعري، لكن الأوقع من كل ذلك هو شعوري بجفاف الحياة وتذكري أياماً كانت أكثر طراوة ومرونة وفرحاً، وتلك لا ذنب لسنواتي فيها، تلك ذنب متديني سياسة سخّروا الدين لخدمتهم وساسة دين روضوا السياسة لمنفعتهم، هم يسافرون يفرحون مع كل مناسبة ونحن نبقى والحنين. كبرت أنا، لربما قبل وقتي، بسببهم.
____
*الجريدة