*ميرزا الخويلدي
منذ وعينا على هذه الدنيا، ونحن نسمع التحذيرات المتكررة من خطر التغريب. ومن الفكر التغريبي، والمنهج التغريبي، وتغريب المجتمع.. وغيرها. حتى نبت في وعينا أن ثمة «غولا» في الضفة الأخرى من العالم لا همّ له إلا ابتلاع هويتنا والقضاء على ثقافتنا، وتدمير حضارتنا. وكلما كبرنا كنا نقترب من هذا الغرب «المتوحش» أكثر، وننساق خلف شعاراته، ونهوى منتجاته، ونعشق نمطه في العيش، وطريقته في الحياة.. وما زال أولئك الدعاة المذعورون يثيرون المخاوف من التغريب، ويسعون جهدهم لتحصين المجتمع من الثقافة الغربية..
كان المشهد في السابق مشدودا نحو اصطناع العدو والتحذير منه، أيام لم يكن لدى هؤلاء عدو سوى الغرب، قبل أن يشتغلوا بأنفسهم، ويستولدوا أعداء من بني جلدتهم.. لكنهم وفي إطار معاركهم لتطويق المجتمع، ما زالوا يستخدمون سلاح «التغريب» ضد خصومهم، فما أسهل أن يزيحوا المنافسين بدعوى اتباع الفكر التغريبي، واعتناق مبادئه الهدامة.
هذه الثقافة أرادت العزلة عن العالم، وهي بطبيعتها لا تقبل التعايش مع الآخر، ولديها قلق مصيري من تذويب عناصر القوة لديها، فمتى ما وعى الطائر أن العالم كبير وواسع ومتعدد، فلن يبقى في القفص!
كان طبيعيا أن نسمع تلك التحذيرات، التي تصدر من أشخاص قلقين على ما في أيديهم أكثر من قلقهم على ما في ضمائر الناس، أثناء حروب الاستقلال، وسنوات الصراع. أما الآن ونحن جزء من العالم الذي تشكل الحضارة الغربية عموده الفقري، ونحن متحالفون مع هذه الحضارة ولدينا تواصل واتصال معها، ولدينا مصلحة في التعاطي الإيجابي معها والاستفادة من تراثها الحضاري ومنجزها الإنساني، فإن استمرار قرع طبول الحرب والقطيعة مع الحضارة الغربية يُعد عبثا لا طائل منه.
الغريب أن دعاة القطيعة، ليسوا بالضرورة أفرادا منحازين عن الحضارة.. فهم يستخدمون آخر ابتكارات الغرب ومنتجاته كمنصة لتسويق خطابهم، ونقل أفكارهم، وقصف خصومهم أيضا.. فقد أصبح لدينا خطاب تقليدي بقالب حداثي، انظر من يستخدم أكثر وسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت كـ«تويتر» وهي فخر صناعة العقل الغربي، ستجد أنهم أنفسهم أصحاب القطيعة. كما أصبحوا اليوم يمتلكون تقنيات البث الفضائي الغربي وهي آخر ابتكارات العقل الحداثي من أجل ترويج خطاب ماضوي تقليدي انعزالي..
هؤلاء الذين يعيشون «عالة» على الحضارة الغربية، لم يشغلوا أنفسهم مطلقا بامتلاك استقلالهم وإنتاج أدواتهم الفكرية والنقدية والتقنية وتحرير العقل لكي يؤدي دوره كملهم وقائد لحركة الإنسان، وليس مكبلا بالقيود، ومعيقا للحركة.
هناك ثمة عقلية تنتج خطابا تبريريا يفصل بين الحضارة الغربية ومنتجاتها، وهي خديعة يراد لنا تصديقها، يريدون أن يأخذوا من الغرب ترف الحياة العصرية، وتقنيات التواصل، ووسائل الاتصال، ومناهج التعليم، وابتكارات الصناعة، ولكن ليسوا مستعدين أن يأخذوا منه تجربته في بناء الدولة، وتكوين المجتمع، والمسؤولية، وتعزيز دور الفرد واحترام حقوقه وحريته ورأيه، وبناء المؤسسات، وسنّ الأنظمة الإدارية، والاهتمام بالعلم، ومكافحة الفساد، وبناء أجهزة الرقابة والمحاسبة.
ليس خطاب القطيعة من يمارس التدليس فقط، بل حتى بعض دعاة الليبرالية يمارسون الخديعة، فهم يسوقون لنا منتجات ذات ملمس ناعم لتبدو كأنها صنعت في الغرب ولكنها فارغة من محتواها، هي أقرب للشمولية القادمة من الاتحاد السوفياتي السابق أو الصين..! ليبراليون لا يعرفون من المنتج الغربي سوى السلوك والمظهر، وهي في أحسن احتمالاتها أمور شخصية لا تعطي قيمة مضافة لصاحبها وللمجتمع.
لسنا بحاجة لثقافة القطيعة، التي تريد أن تعزلنا عن العالم لأوهامها هي، ولسنا بحاجة أيضا لثقافة الخديعة التي تملأ عالمنا بأضواء النيون، على أنها التعبير الصريح عن الحضارة الغربية. ولدينا هوية وثقافة أتعب أولئك وهؤلاء أنفسهم في وصف حصانتها وقوتها أمام التحديات.. فاتركوها تتحدى..!
_________
*(الشرق الأوسط)