أسقيها من ماء خيالي


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )

ست قصص قصيرة جدًّا
اقتراح
اسمها سكينة.
قلت لها: أنت في غزّة وأنا في القدس، فكيف نلتقي في ظلّ هذا الحصار؟ قالت: نستعين بخدمات الانترنت، ونفعل كلّ شيء، نملأ الدنيا صخبًا، ونتزوّج إن شئت. قلت: رائع، وسيكون لنا ثلاثة أطفال. قالت: أنت في غاية الاستعجال، فأين يسكنون؟ قلت: في غرف الدردشة. وحينما لا يكون ثمّة قصف جوي أو اعتقالات، نصعد بهم إلى أسطح المواقع الإلكترونية، يلعبون مثلما يريدون، ونجلس أنا وأنت على حافّة أحد المواقع متلاصقين، نُدندلُ أرجلنا، يهتزّ بنا سطح الموقع ويميد ولا نبالي، نمعن في تأمّل الشعوب وهي تحيا حياتها مثلما تريد.
ماء الخيال
قبضتُ على يدها وقلت لها: هيّا اركضي. ركضت معي وركضت معها حتى نال منّا التعب. سألتها: هل تعبت؟ قالت: تعبت. قلت: علينا أن نبحث عن جرعة ماء. 
تجوّلنا في بعض المواقع الإلكترونية الغاصّة بالنساء. نساء من كلّ الأعمار، في كامل عريهن. وضعت يدها على عينيها وقالت: أشعر بالخجل. قلت: لا داعي للخجل، فأنت أيضًا تتعرّين في السرير وفي الحمّام وعلى سطح الدار. قالت في محاولة لإنهاء هذا الحوار: من أين نحصل على جرعة ماء؟ قلت: نسأل تلك المرأة الواقفة في شرفة ذلك الموقع الإلكتروني الذي تشعّ من نوافذه الأضواء. 
حيّيت المرأة بإشارة من يدي، وقلت: هل لديك جرعة ماء لي ولامرأتي؟ ردّت بعدم اكتراث: لا نقدّم هنا ماء لأحد. ثم أضافت: اشرب أنت وامرأتك من ماء خيالك. شكرتها لأنّها نبّهتني إلى أمر غاب عن البال. 
ابتعدنا، وكان ماء خيالي يتدفّق مثل شلال.
فضاء افتراضيّ 
جاءها شخص في زيّ ملاك. أغراها بالدخول إلى عالمه المثير للاستكشاف. دخلت وكان يغريها بالتوغّل أكثر فأكثر في عالم من التوقّعات. وفجأة بدأت الانهيارات. راح عالمها الافتراضي يتهدّم أمام عينيها وهي حائرة لا تدري ماذا تفعل أو ماذا تقول؟ 
استعانت بكلّ خبراتها في التعاطي مع الشبكة العنكبوتيّة لعلّها تنقذ الوضع، أو لعلّني أهبّ لنجدتها بطريقة ما، فلم يصلها أيّ شيء منّي لأنّ موعدي معها لم يكن قد حان. أدركتْ في لحظة الخسارة الممضّة أنّها وقعت ضحيّة خدعة ما.
تواصلت معي بعد أيّام، قلت لها: كنت أخمّن أنّك وقعت ضحيّة اعتداء غادر دبّرته إحدى الجهات. أخذتها بين ذراعيّ، وكانت مواقع إلكترونيّة صديقة ترانا من مسافة ما. 
بين اليأس والرجاء

استبدّ بي الملل ذات مساء. جلت جولة ثم أخرى في الفضاء الإلكتروني المتاح. لم يعجبني شيء البتّة. شعرت بأنّ ما يحيط بي هو فراغ في فراغ. انتظرتها في إحدى غرف الدردشة، ولم تأت في الوقت المحدّد. قلت لنفسي: ربّما أصابها مكروه. قلت: ربّما استبدّ بها الملل هي الأخرى ولم يعد يغريها هذا الفضاء. 
انتظرتها ساعة. انتظرتها ساعتين. في تلك الأثناء، حاولت بعض نساء الدردشة اصطيادي فلم يفلحن في مسعاهنّ، لأنّني بالغ الإخلاص لمن وهبتها قلبي.
حينما لم تظهر، اعتقدت أنّها قضت شهيدة بسبب إحدى الغارات الجوّيّة على المدينة، أو ربّما اختنقت وهي نائمة بفعل تسرّب الغاز. تمنّيت ألاّ يكون ذلك قد وقع. اعتقدت أنّ الكهرباء انقطعت كما هو الحال كلّ يوم هناك، وتمنّيت أن يكون ذلك هو السبب. 
فجأة، وأنا بين اليأس والرجاء بزغ اسمها من بين عشرات الأسماء. طلبت منها أن توافيني في إحدى غرف الدردشة، فاستجابت لي في الحال، وهناك مددت إليها ذراعين من رغبة واشتياق، وضممتها إلى صدري، وبقينا على هذا الوضع الحميم حتّى الصباح.

ملل
ذات مساء، استبدّ بها الملل. قالت: غزّة محاصرة والقدس تضيع. قلت: أعرف ذلك، فلماذا تذكّرينني بما يبلبل الخاطر ويدمي كلام السؤال؟ قالت: لأنّني مللت هذا الفضاء الإلكتروني الذي لا يشفي الغليل. قلت: تعالي إلى القدس لكي أشفي غليلك. قالت ساخرة: كم أنت فصيح! وأضافت: أنت تعلم أنّ هذا محال. ثم سألتني: لماذا لا تأتي أنت إلى غزّة؟ قلت: أنت تعلمين أنّ هذا غير متاح. قالت في لحظة نزق: إذًا نفترق. قلت: نفترق. 
حزنت مواقع إلكترونيّة عدّة لذلك. 
غير أنّنا عدنا إلى التلاقي بعد ثلاثة أيّام، فابتهج كثيرون من أهل هذا الفضاء الافتراضيّ أيّما ابتهاج.
شكرًا لبيل غيتس
قالت لي بعد تجدّد اللقاءات: كم أنا سعيدة بك! قلت: وأنا سعيد بك. قالت: أرسلت رسالة شكر لبيل غيتس. قلت: يستحقّ ما هو أكثر من رسالة شكر. قالت: كم أتاح لنا من فرص للتواصل! لولاه لبقيت محاصرة في غزّة لا أعرف كيف أذهب وكيف أجيء! أو أتلفّظ بكلمة حبّ واحدة! 
قالت: أرسلت الرسالة لبيل غيتس رغم كلّ المنغّصات. قلت: علينا أن نتوقّع المنغّصات. قالت: لكنّ الرسالة عادت إليّ. قلت: ربّما وقع خلل ما، ويمكنك إرسالها مرّة أخرى. قالت: أرسلتها مرّة أخرى وتكرّر الأمر نفسه. قلت وأنا أشعر بالحرج: علينا أن نتوقّع المنغّصات.
فجأة، انقطع اللقاء. انتظرتها يومًا وانتظرتها يومين وثلاثة أيّام وشهرًا وشهرين وسنة وسنتين، وما زلت أنتظر وأفكّر في أسباب هذا الانقطاع. 
_______
*روائي وقاص من فلسطين 

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *